في يوم من أيام صيف 1967م كان “ستيفن واينبيرغ” يقود سيارته متجها إلى مكتبه في معهد ماساشوستس التقني MIT في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي أثناء الرحلة خطرت في ذهنه فكرة قادته إلى كتابة ورقة علمية تقل عن ثلاث صفحات حصل على إثرها على جائزة نوبل في الفيزياء في العام 1979م، وأصبحت ورقته هذه هي المرجع الأكثر استشهادا في مجال فيزياء الطاقة العالية لعقود من الزمن. عنوان تلك الورقة هو “نموذج خاص باللبتونات” A model of Leptons، وعدد الإشارات المرجعية التي حصلت عليها حتى كتابة هذه المقالة تفوق 13 ألف إشارة.
توفي “واينبيرغ” في الشهر السابع من سنة 2021م، تاركا خلفه إرثا فيزيائيا ستدرسه الأجيال لسنين طويلة. فما اكتشفه ليس تقنيات تتغير وتتبدل سريعا مع مرور الزمن، وإنما اكتشف أمور تتعلق بكيفية عمل الطبيعة، وهي من أبلغ الغايات التي يسعى إليها الإنسان ومهما تعلم فإنه يزداد جهلا عن الكون. فما هي قصة حصوله على جائزة نوبل؟
تبدأ القصة قبل نشره للورقة النوبلية بسبع سنوات، وتحديدا في عام 1960م عندما تعرف “واينبيرغ” على فكرة استجدت في مجال تخصصه وهي “كسر التناظر” Symmetry Breaking. ولأن “واينبيرغ” متخصصا في فيزياء الجسيمات الأولية (أيضا تسمى فيزياء الطاقة العالية) فإنه كان يعرف جيدا أهمية مفهوم “التناظر” لفهم قوانين الطبيعة التي تحكم اللبنات الأساسية للمادة (الجسيمات الأولية). ودعونا نشرح فكرة التناظر باختصار.
انظر لما حولك من بشر، وحيوانات، ونباتات وأشجار ومبان، وأجهزة. ستجد التناظر يحيط بك في كل مكان. فالتناظر شيء افتتن به الإنسان منذ قديم الأزل وله معنى جمالي في جميع الثقافات. ما علاقة هذا بقوانين الطبيعة؟ التناظر يرتبط بإجراء عملية على شيء فيبقى الشيء على ما هو عليه! كأن تمسك كرة بلا شوائب ثم تقلبها بين يديك فيظل شكلها كما هو بلا تغيير، وهذا يسمى اصطلاحا “تناظر تحت الدوران”.
لو انتقلنا للفيزياء، نجد أن بعض القوانين الفيزيائية والصيغ الرياضية تبقى على ما هي عليه بعد إدخال تغييرات خاصة عليها (كأن نعكس إشارة المكان أو الزمان أو نجري إزاحة في المكان، أو نجري عملية دوران على الإحداثيات). وعليه فإننا نحكم على هذه القوانين بأنها متناظرة تحت العمليات التي أجريناها.
من أهم الأمور المكتشفة في الفيزياء هو أن وجود التناظر في قوانين الطبيعة يدل على وجود كميات فيزيائية محفوظة في النظام الذي تحكمه تلك القوانين، كأن تكون الطاقة ثابتة (محفوظة) وغير ذلك بحسب نوع التناظر. والفضل في تأصيل هذه الفكرة يعود إلى عالمة رياضيات وفيزياء رياضية ألمانية اسمها “ايمي نويتر”. قد يتذكر بعض القراء ما درسناه أيام المدرسة: الطاقة محفوظة وكمية الحركة محفوظة. والمهم في الأمر هو أنه بالإمكان ربط كل كمية محفوظة بتناظر محدد في قوانين الفيزياء، ومن أهم مهام المتخصصين في فيزياء الجسيمات الأولية مثل “واينبيرغ” دراسة تلك التناظرات وتبعاتها.
ولكن ما هو كسر التناظر؟
في مثال الكرة الذي ذكرته سابقا، لو وضعت نقطة سوداء على الكرة ثم قلبتها بين يديك، فإنك كسرت التناظر الذي ذكرناه لأن موضع النقطة السوداء يتغير كلما حركت الكرة وبالتالي فإن شكل الكرة نفسه يتغير، فهي لم تعد متناظرة حول الدوران في ثلاثة أبعاد.
وكمثال آخر، إذا حاولت أن توازن قلم رصاص بأن تضع رأسه على طاولة ونجحت في ذلك، ثم تركت القلم متزنا في مكانه، فإنه سيسقط بعد حين (بسبب أدنى اهتزاز أو حركة). ولكنه سيسقط في اتجاه ما على الطاولة من بين مجموعة كبيرة من الاتجاهات المتاحة (على افتراض أنه لا يوجد أي شيء يجعل اتجاه سقوط ما أكثر احتمالا من اتجاه آخر).
قبل أن يسقط القلم كان في وضع اتزان لحظي وكانت جميع اتجاهات السقوط محتملة، فهناك تناظر، ولكن عندما يسقط القلم في اتجاه ما، فإن مجبر على كسر التناظر واختيار احتمال واحد فقط. هذا النوع من كسر التناظر يشبه ما نسميه فيزيائيا “الكسر التلقائي للتناظر”، وهذا النوع من كسر التناظر هو الذي أثار اهتمام “واينبيرغ” ووجد أهمية كبير في الفيزياء. فمن هذه الظاهرة تتحول المادة من موصل عادي إلى موصل فائق، ومن هذه الظاهر تتحول الأجسام الأولية من أجسام بلا كتلة إلى أجسام لها كتلة، وهذا المثال الأخير هو من أهم الإنجازات في الفيزياء الأساسية.
اهتمام “واينبيرغ” دفعه في عام 1961م إلى العمل في هذا الحقل البحثي مع بعض عمالقة المجال أمثال “جولدستون” و “عبدالسلام”، وكان متابعا للمشهد العلمي الذي يدور حول هذه الأفكار عن كثب. فكان من أبرز الإضافات العلمية التي ظهرت هي الأوراق العلمية التي نشرها “هيجز” و”انجليرت” (حصلا على إثرها على جائزة نوبل للفيزياء عام 2012م) و”بروت” (توفي قبل اكتشاف جسيم هيجز) ومن شاركهم في الأبحاث. على أية حال، في عام 1965م قرر “واينبيرغ” أن يطبق ما تعلمه عن التناظر وكسر التناظر على القوة النووية الشديدة (وهي المسؤولة عن ربط مكونات نواة الذرة ببعضها)، ولذلك سعيا لتفسير بعض الظواهر المشهودة في هذا النطاق.
ولكن وبعد مرور سنتين من العمل، وفي اليوم الذي ذكرناه في بداية المقال، قرر أن يغير تركيزه البحثي من الأجسام دون الذرية التي تخضع للقوة النووية الشديدة إلى الإلكترونات. والإلكترونات هي جسيمات أولية لا تتفاعل بالقوة النووية الشديدة، بل تتفاعل بالقوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة معا، والإلكترونات تدخل في تصنيف للجسيمات الأولية تحت اسم “اللبتونات”. عموما، كلا القوتين تخضع قوانينها لتناظرين مستقلين. فقرر واينبيرغ أن يدمج التناظرين في تناظر واحد اسمه التناظر الكهروضعيف (وبالتالي توحيد القوتين في القوة الكهروضعيفة)، ومن ثم يفسر اختلافهما الذي نراه في كوننا الآن بأنه نتيجة حصول كسر تلقائي للتناظر الكهروضعيف في لحظة من لحظات تطور الكون. وهذا الشيء جعله يفسر سبب أن الضوء (الفوتونات وهي نواقل القوة الكهرومغناطيسية) بلا كتلة، ومكنه من تقدير كتل نواقل القوة الضعيفة. تبين لاحقا أن تنبؤاته صحيحة، وعلى إثر ذلك حصل على جائزة نوبل.
فضلا عن أبحاثه الرصينة في الفيزياء، عرف “واينبيرغ” كمؤلف لكتب علمية موجهة لعموم الناس. أشهر كتبه: الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون، وكتاب: أحلام الفيزيائيين للنظرية العلمية الأخيرة، ومن آخر كتاب كتبته كان عن تاريخ العلم الحديث. ودعوني أشير إلى كتاب “أحلام الفيزيائيين” فهو كتاب مهم يلخص طريقة تفكير من يعمل في مجال اكتشاف القوانين الأساسية للطبيعة. فمنطلق الكتاب هو مبدأ توحيد مبادئ الفيزياء الأساسية المبعثرة في مبدأ واحد يشمل كل شيء نعرفه عن الفيزياء الأساسية وتنبع عنه كل ما هو فوقها. أهم مثال ناجح لهذه الفكرة هو توحيد القوة الكهربائية والقوة المغناطيسية في القوة الكهرومغناطيسية وقد قام بذلك الفيزيائي ماكسويل. ومن ثم واينبيرغ نفسه أسهم في توحيد القوة الكهرمغناطيسية والقوة النووية الضعيفة (وبشكل مستقل: عبدالسلام وجلاشو وجميعهم حصل على نوبل). والنموذج المعياري لفيزياء الجسيمات يضع القوة الكهروضعيفة والقوة النووية الشديدة في إطار واحد (ولكنه ليس توحيدا كما حصل مع القوى المذكورة آنفا). هذه المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها واينبيرغ وأكثر فيزيائيي الجسيمات تسمى المدرسة الاختزالية، والسعي ما زال مستمرا لتوحيد القوى الأربع في الطبيعة (ما ذكرناه آنفا بالإضافة إلى قوة الجاذبية) في قوة واحدة.
خلال مسيرة “واينبيرغ” العلمية، كان إذا أراد أن يتعلم موضوعا جديدا يؤلف فيه كتابا مرجعيا! ففي الستينات الميلادية أثار اهتمامه اكتشاف أشعة الخلفية الكونية فشرع في تأليف كتاب مرجعي عن الجاذبية. ولاحقا ألف كتبا مرجعية في علم الكون وفي الفيزياء الفلكية. ومن كتبه المرجعية على مستوى مرحلة الدراسات العليا كتاب ميكانيكا الكم، وعلى مرحلة البكالوريوس كتاب في الفيزياء الحديثة. ولكن أشهر كتاب مرجعي له هو كتاب من ثلاثة أجزاء (ثلاثة كتب في الحقيقة) وهو “النظرية الكمية للحقول”. وهو يعد من أهم المراجع في المجال كونه يقع ضمن اختصاص “واينبيرغ” الدقيق والذي أسهم فيه إسهامات كبيرة لا يسع ذكرها في هذا الحيز.
أخيرا، لا يمكن حصر جميع إنجازات واينبيرغ في مقالة قصيرة كهذه، فلا شك أننا أغفلنا بعض النقاط والمراحل الهامة في مسيرته العلمية. وبصرف النظر عن أفكار “واينبيرغ” الاجتماعية والسياسية والتي قد يختلف معها الكثيرون -ومنهم كاتب المقالة-، إلا أن شهادة الحق تحتم أن نقول إنه من عمالقة الفيزياء الذين وقف على أكتافهم مئات الفيزيائيين والفيزيائيات في هذا الزمن لسبر أغوار الكون وفك شفرة الطبيعة.
مصادر:
– Steven Weinberg – Nobel Lecture: Conceptual Foundations of the Unified Theory of Weak and Electromagnetic Interactions – NobelPrize.org
– A Model of Leptons Steven Weinberg Phys. Rev. Lett. 1967
– HEP INSPIRE Database (inspirehep.net)
– [physics/0503066] Invariant Variation Problems (arxiv.org)
– Broken Symmetries by Jeffrey Goldstone, Abdus Salam, and Steven Weinberg, Physical Review 1962
السلام عليكم دكتور، مشكور على المقال .
سؤال: هل ممكن أن تكون نظرية “كسر التناظر” فكرة إلحادية تريد أن تصل إلى إمكانية الإيمان بأن للمخلوقات خالقين إثنين متناظرين.
للعلم “التناظر” سنة كونية في المخلوقات ترسخ الاعتقاد بأن الخالق لا نظير له.
وعليكم السلام عزيزي، والعفو.
لا يا عزيزي لا يمكن أن تكون فكرة كسر التناظر فكرة إلحادية بذاتها. لأن كلا التناظر وكسر التناظر موجود في الطبيعة وهي ظواهر مشاهدة يوميا (مثلا تكون وذوبان الsnowflakes، تحول المواد إلى المغناطيسية الحديدية Ferromagnetism وغير ذلك الكثير الكثير).
أرجو ألا نربط بين كون بعض الفيزيائيين ملحدين وأن نظريات الفيزياء التي تم اختبارها تجريبيا مرارا وتكرارا لها أي صلة بوجهات نظرهم. سبق أن كتبت عن هذا مقال: هل تسهم العلوم في توطيد الإلحاد. أرجو الاطلاع عليه.
شكرا لسؤالك وتقبل تحياتي
مقال مميز عن عالم عظيم
اتمنى ان تترجم كتبه للغة العربية , فقد عانينا من قلة المصادر العربية في علم الفيزياء
فمن لها ؟
حياك الله، وشكرا لك.
أذكر أنني قرأت “أحلام الفيزيائيين…” و”الدقائق الثلاث الأولى…” مترجمة عندما كنت مراهقا. لكن ربما أن تلك الترجمات اندثرت ولم يعاد طبعها.
توجد لدينا مشكلات عديدة في النشر في العالم العربي، ولكن ربما النشر الإلكتروني يساعد في حل تلك المشكلات ويشجع المترجمين الجادين.
تحياتي