منشور في مجلة العلوم السعودية بتاريخ 28-12-1436هـ (12-أكتوبر-2015م)
في هذه الأيام، تتجه أنظار العالم نحو جائزة نوبل بفروعها العلمية و الإنسانية. فهذه الجائزة العريقة -وإن كان الجميع يعلم أنه من المستحيل لها أن تفي كل ذي حق حقه- هي حدث يذكر العالم بأهمية المعرفة و الإبداع و الريادة. و نحن في وطننا قد عقدنا العزم على التطور علميا و معرفيا و إنسانيا. و يتمثل هذا بشكل كبير في برنامج الابتعاث الذي امتد لسنوات مستثمرا في آلاف العقول الوطنية التي يرجى لها أن تعود بالنفع علينا خلال العقود القادمة، بالإضافة إلى دعم الباحثين و تشجيعهم على الريادة في مجالاتهم و هو أمر من ِشأنه -إن استغل بالشكل الصحيح- أن يساهم في مسيرة النهضة و التقدم.
و لكن لكل مسيرة تطور هموم، و أحد الهموم التي ترتبط بنهضتنا علميا -و خصوصا في مجالات العلوم الطبيعية المرتبطة بجائزة نوبل- هو قلة الوعي العلمي و الثقافة العلمية في المجتمع، حتى بين طبقات ‘المثقفين’، و الجهل العام بطبيعة البحث العلمي في مجالات العلوم و أهميته للتنمية، و بالمصاعب التي تصاحب الباحث خلال رحلته ليصبح عالما في مجاله و هو أمر يستغرق في العادة سنوات طويلة.
لقد أصبح البحث العلمي في معظم مجالات العلوم أكثر تعقيدا من أي وقت مضى في تاريخ البشرية و ذلك لأسباب كثيرة من أهمها تراكم المعرفة. و عندما تبحث عن شيء جديد في مجالك متبعا المنهج العلمي الراسخ و مطلقا العنان لفكرك و لإبداعك، فإنك لا تعرف مسبقا هل ستكون النتيجة النهائية لبحثك هي اكتشاف جوهري و إيجابي تتلقفه الصحافة و تتصيده الجوائز، أم ستكون نتائجك سلبية يتعلم منها المتخصصين في مجالك بأن هذا الطريق مسدود. و في كلا الحالتين فإن الباحث يقوم بنفس المهام و المشقة، أما النتيجة النهائية فهي شيء ليس له تحكم فيها.
و في خضم ذلك و بسبب التنافس على الإنجاز و لحداثة مجتمعنا معرفيا و خصوصا في مجالات العلوم، قد يجد الباحث الصغير -طلاب الدراسات العليا و حملة الدكتوراه الجدد- نفسه تحت ضغط إثبات النفس ‘إعلاميا’ و ليس بحثيا. و لهذا يحدث ‘التطبيل’ أحيانا، و ما يزيد الطين بلة هو تلقي الإعلام و بعض الناس لهذا التضليل بدون احترافية. و ليس في أي من ذلك نفع للمجتمع، بل فيه ضرر.
و هنا يجب أن نفرق بين ذلك الباحث الذي يفرح لأن ورقته نشرت أو قبلت ليلقيها في مؤتمر كبير أو حصل على أفضل ملصق، و هذه الفرحة مهمة لأنها قد تزيل كثيرا من عبء مرحلة البحث و تعطي الباحث الدافع للاستمرار. و من المناسب أن يشارك المجتمع الأكاديمي الباحث فرحته و يقدم له الدعم المعنوي المطلوب. لكن ينبغي عدم المبالغة كأن يدعي الباحث أو إعلام ‘التطبيل’ أنه بهذا أصبح عالما كبيرا في مجاله، لأن الوصول لهذه المرتبة يتطلب بحق جهد سنين طويلة، حتى لو كنت عبقريا.
إن التعامل مع العلوم يتطلب الهدوء و الروية و بعد النظر و المغامرة، سواء من الباحث أو من الجهة الداعمة له. و كل بارع في العلوم يستحق التقدير و ليس فقط من يحصل على جائزة، لأننا لا يمكن أن نعرف مسبقا من منهم سيحصل عليها! و لكي يحصل أحد من وطننا على جائزة كجائزة نوبل و خصوصا في مجالات العلوم فلا بد أن نكون مجتمعا يعطي العلوم قدرها. و يمتد هذا على مستوى ثقافة عامة الناس بكل أطيافهم و مستوياتهم، و على مستوى المدرسة و المعلمين، و على مستوى المؤسسات البحثية الوطنية، و على رأس ذلك كله: أقسام العلوم في جامعاتنا.
إن أحد أهم أسباب هجرة كثير من العقول في العالم الإسلامي و العربي إلى الغرب هو أن الغرب يدعم كل المجالات العلمية. و لا يتوقع منك أن تكون عبقريا أو عالما كبيرا لكي يتم دعمك، بل يتم ذلك بناء على جهدك و تطلعاتك و وضوح تصورك و شغفك بمجالك، و هناك فرص كثيرة للحصول على الدعم المناسب لبناء نفسك كعالم في مجالات علوم الطبيعة حتى تصل إلى أعلى المستويات. و نحن في وطننا لا نريد للمبدعين في تخصصاتهم العلمية -خصوصا الباحثين الصغار- أن يهاجروا، بل نريد أن يجدوا الدعم و التشجيع من قبل جامعاتهم و مؤسساتهم البحثية بشكل احترافي، كل في مجاله.
فالبحث الممتاز لا يعني بالضرورة العبقرية و لا النتائج الإيجابية. و نعلم أن كثيرا من الإنجازات و الاختراعات حصلت بمحض الصدفة بعد أن بذل الباحث جهده و تهيأت له الظروف المناسبة. و على كل ذلك، يجب أن لا يشعر الباحث أنه بحاجة ليثبت نفسه إعلاميا، أو أن يقارن نفسه -أو يقارنه الإعلام و قليلي المعرفة- بمن فاز بجوائز، أو غيرها من ضغوط. بل يجب أن يترك له المجال للعمل بهدوء و أمان حتى يصل للنتيجة التي يريدها هو و المجتمع.
و يجب أن ندرك أن الجامعة أو المؤسسة البحثية التي تصر أن تكون نتائج باحثيها إيجابية على الدوام لن تصل لشيء. بل ستجد نفسها مضطرة دوما ‘للتعاون’ مع مجموعات أجنبية توصلت أبحاثها المستمرة منذ عقود لنتائج إيجابية ما زالت قابلة للنشر في المجلات ذائعة الصيت. و لكن هذا هو بالضبط ما يقلل فرصة تطور البحث العلمي بسواعد و أفكار أبناء الوطن. و لا يعني ذلك ‘قطع’ التعاون مع الآخرين للاستفادة من خبراتهم.
و فيما يخص دعم العلوم الطبيعية و التي لا توجد دولة كبيرة لا تدعما بسخاء، فإننا في مجتمعنا بحاجة إلى المزيد من الدعم لتلك المجالات، و لا يحق لأحد أن يحصر احتياجات البحث العلمي في مجالات أو أقسام معينة، لأننا نعيش اليوم في عالم أصبحت تتقاطع فيه طرق البحث العلمي و تنتقل فيه الابتكارات و الإبداعات من مجال لآخر كالعدوى. و لا يمكن لأي مجتمع أن ينافس الدول القوية بحثيا إلا بنظرة شمولية بعيدة المدى تقوم على دعم جميع مجالات العلوم. و يشمل الدعم زيادة الفرص لطلاب الدراسات العليا في مجالات العلوم بجامعاتنا لأنهم عصب البحث العلمي، و لباحثي ما بعد الدكتوراه، و للتواصل العلمي بين مختلف الجامعات.
أخيرا، إن الوصول للقمة علميا هو أمر يتطلب الصبر. لذلك علينا أن ندعم البحث و الباحثين، و علينا أن لا نستعجل النجاح!