النيوترينات: أشباح الكون.

ابسط كفك في الهواء!  في كل ثانية تخترق كفك مليارات الجسيمات متناهية الصغر، و كأن كفك غربال تخترقه حبات رمل. و تلك الجسيمات هي النيوترينات: أشباح الكون1.
neu-1

Credit: INFN-Notizie N.1 giugno 1999

على الرغم من أن النيوترينات -و هي ليست النيوترون الموجود في أنوية الذرات- اكتشفت قبل ما يزيد عن الستين عاما، غير أنها ما زالت محاطة بهالة من الغموض، وما زلنا نبحث عن إجابات لأسئلة علمية كثيرة متعلقة بها.

لكن هذه السنة هي سنة سعيدة لمجتمع فيزياء الجسيمات و ذلك لأن جائزة نوبل قد توجت أولئك الذين كشفوا لنا بعض ما تبطنه الطبيعة عن النيوترينات. تحديدا، ظاهرة نسميها باهتزازات النيوترينات. وهي ظاهرة اكتشفت في التسعينات الميلادية وخضعت لمجهر التجارب في عدة معامل لعقدين حتى تم هذا التتويج.

حوار مع نيوترينو!

وقبل الخوض في الظاهرة، تعالوا معي أعزائي القراء في مقابلة شخصية مع أحد تلك النيوترينات، و اسمه نيوترينو-إ، أو اختصارا (نيو-إ).

electronnu

Credit: http://particlezoo.net/

مَ: مرحبا نيو-إ، نريد أن يتعرف بك القراء في هذا اللقاء!

نيو-إ: أهلا بكم و على الرحب و السعة.

مَ: أولا ما هي شحنتك الكهربية؟

نيو-إ: أنا عديم الشحنة الكهربية.

مَ: جميل، يعني أنت لا تتفاعل مع الضوء أو أي مجالات كهرومغناطيسية، ولذلك لا يمكن أن نراك.

نيو-إ: صحيح.

مَ: من أي فصيلة من الجسيمات الأولية أنت؟

نيو-إ: الفرميونات و تحديدا اللبتونات.

مَ: يعني أنت والإلكترون أقرباء؟

نيو-إ: صحيح، والواقع أن حرف ‘إ’ في اسمي هو أول حرف من “إلكترون”، وذلك لأنني النيوترينو الذي يصاحب الإلكترون في نوع من التفاعلات يسمى بالتفاعلات النووية الضعيفة.

مَ: معنى هذا أنه يوجد نيوترينو-م، و نيوترينو-ت؟ وأنهما يصاحبان شقيقي الإلكترون: جسيم الـ”مـيون و جسيم “تـاو”؟

نيو-إ: صحيح، فأنتم يا معشر الفيزيائيين تصنفوننا حسب من نصاحب إلى ثلاث نكهات: نيو-إ، و نيو-م، و نيو-ت.

مَ: طيب، لن أطيل عليك و لكن السؤال الأهم الآن، ما هي كتلتك؟

نيو-إ: اعذرني لست مخولا لإخباركم بهذه المعلومة!

مَ: !! لكننا نعرف أنكم تملكون كتلة بسبب ظاهرة اهتزاز النيوترينات.

نيو-إ: صحيح، و لكن لن أحدد لك مقدار كتلتي فهذه نتركها لكم لتكتشوفها و إلا فستبقى سرا من أسرارنا!

مَ: طيب شكرا لك نيو-إ

نيو-إ: العفو و أتمنى أني أفدتكم!

 

قياس كتلة النيوترينات

من الحوار السابق، نعرف أن للنيوترينات كتلة و لكننا لا نعرف ما هي قيم تلك الكتل! و هذه العبارة في حد ذاتها تحتاج إلى شرح، و كيف لا و هي التي أدت لجائزة نوبل! أولا ينبغي أن ندرك أن قياس كتلة النيوترينو ليست مثل قياس كتلة جسمك في الميزان! فإحدى الطرق لقياس كتلها تتعلق بدراسة نوع خاص من التحللات النووية (يسمى تحلل بيتا)، و لكن لأن هذه الجسيمات الشبحية تكاد أن تكون معدومة الكتلة فإن تحديد قيم كتلها يتطلب دقة تجريبية عالية تفوق كل الدقة الموجودة في تقنيات اليوم. لذلك فإنه بإمكاننا و من باب التقريب أن نعتبرها عديمة الكتلة. و هو ما عليه الأمر فيما يتعلق بنظريتنا العلمية الخاصة بعالم الجسيمات الأولية و التي تسمى النموذج المعتمد لفيزياء الجسيمات، غير أن فريقا من العلماء في اليابان (1998م) و في كندا (2001م) اكتشفوا و أكدوا ظاهرة تسمى اهتزازات النيوترينات، و التي كان قد تنبأ بها و طورها الفيزيائي النظري برونو بونتيكورفو، و عليه فإننا نعرف أن نموذج الجسيمات الأولية لا يصف كل شيء في عالم الجسيمات!

اهتزازات النيوترينات

tk2klyout1_

Credit: http://neutrino.kek.jp/topics/k2k.html

لو جمعت مئة نيوترينو من النوع نيو-إ، ثم أرسلتها في مهمة إلى جانب آخر من الأرض، و كان أحد أصدقاؤك يقف في ذلك الجانب منتظرا وصولها، و ما أن تصل إليه فإنه يتصل بك. ماذا تتوقع ستكون إجابته عن سؤالك: كم نيوترينو وصل لديك؟ (توقعي الشخصي هو مئة!)، و لو سألته ما هو نوعها؟ (توقعي الشخصي أيضا أنه سيقول كلها نيو-إ). و هذا ما كان يتوقعه كل المجتمع الفيزيائي تقريبا حتى اكتشفت ظاهرة اهتزاز النيوترينات و التي تتمثل في أن النيوترينات قادرة على تغيير نوعها خلال سفرها في الفضاء (أو خلال اختراقها للأرض مثلا). و معنى ذلك، أن صديقك قد يخبرك أنه لا يرى سوى 80 نيوترينو من نوع نيو-إ، و أنه قد اختفى 20 منها، و ظهر مكانها 20 نيوترينو من نوع آخر هو نيو-م. و هذه هي ظاهرة اهتزاز النيوترينات. إن هذه الخاصية، أي قدرة النيوترينات على التحول من نوع لآخر، ما كانت لتكون لو لم يكن للنيوترينات كتلة. لأن الكتلة تسمح للنيوترينات أن توجد في خليط من الأنواع الثلاثة، و عليه فإنها و عندما تسافر في الفضاء فإنها تهتز متحولة من نوع لأخر. و لن أخوض في التفاصيل الفيزيائية لهذه الظاهرة هنا!

أخيرا، لو سأل سائل لماذا إذن لا يمكن أن نقيس كتل النيوترينات من خلال رصد ظاهرة اهتزاز النيوترينات، فالجواب هو أن هذا النوع من التجارب يمكن أن يخبرنا عن الفرق بين كتل النيوترينات -أو للدقة مربع الفرق بين الكتل- و ليس كتلة كل منها على حدة.

وفي الختام!

solar_neutrinos

Credit: http://icarus.lngs.infn.it/img/solar_neutrinos.jpg

يجدر بي أن أخبركم أن تجارب النيوترينات هذه تتعامل مع رصد النيوترينات القادمة إلينا من التفاعلات النووية الإندماجية في الشمس، و تلك التي تصدر من المفاعلات النووية الإنشطارية في الأرض، إضافة إلى تلك التي تأتينا من الغلاف الجوي و الناتجة عن تحللات و تفاعلات الأشعة الكونية بالجزئيات الموجودة في طبقات الغلاف الجوي، و أخيرا في تجارب المساراعات و الكواشف في معامل مثل معمل سوبركاميوكاندا في اليابان!

لذا فإن التواصل الحميم الحاصل بين كثير من المجموعات النظرية و التجريبية لفهم عالم النيوترينات هو من أكثر مجالات فيزياء الجسيمات الأولية إثارة إلى الآن، و جائزة نوبل التي أعلنت اليوم ما هي إلا لحظة احتفال جميلة في مشوار علمي سيستمر طويلا!

مَعين بن جنيد
لندن 6-اكتوبر-2015م

  1. لو يذكر متابعي المدونة، كانت النيوترينات محط انتباه الإعلام عندما أعلنت تجربة أوبيرا أنها تسير بأسرع من سرعة الضوء، و تبين لاحقا أن النتائج خاطئة. و كنت قد كتبت عن هذا في هذه التدوينة: ماذا لو كانت النيوترينات أسرع من سرع الضوء؟ []

4 آراء على “النيوترينات: أشباح الكون.”

  1. مقال جميل و مبسط
    وبالمناسبة يا دكتور
    لم لا تنشئ حساب ask
    أتوقع سيكون مفيدًا جدًا
    و شكرًا على المقالات الرائعة

    1. شكرا للاقتراح M.ah. منذ فترة وأنا أفكر في طريقة مناسبة لفتح المجال للأسئلة للقراء سواء لاقتراح موضوعات أو للسؤال. سأنظر في Ask.fm. شكرا مجددا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *