كتبه: مَعين يحيى بن جنيد
جامعة الملك سعود بالرياض، و جامعة ساوثهامبتون ببريطانيا
-بدعوة من مسؤول التوعية العلمية بمنظومة الكيلومتر مربع ماثيوإسيدرو (@MatIsidro)-
ليس العرب وحدهم أهل كرم و حسن ضيافة! علماء الفيزياء و الفلك هم أهل كرم و حسن ضيافة أيضا، و ضيوفهم هي ظواهر الطبيعة! فهم يعدون معاملهم من أجل استقبال تلك الظواهر و التعرف إليها. و قد تكشف لنا كثير من تلك الظواهر أسرارا تثرينا معرفيا و تفيدنا تطبيقيا.
التقيت بشاب شغوف بالعلوم اسمه ‘ماثيو‘ في مؤتمر للتواصل العلمي بالممكلة المتحدة في بداية عام 2014م. و يشغل ماثيو منصب مدير التوعية العلمية في تجربة مستقبلية ضخمة تُعد لها العدة منذ سنوات و اسمها: منظومة الكيلومتر مربع Square Kilometre Array. و هي عبارة عن منظومة من التلسكوبات تعمل على التقاط موجات الراديو القادمة من الفضاء، سواء أموجات قادمة من خارج المجموعة الشمسية كانت أم من خارج المجرة كلها! و ستكون هذه المنظومة أكبر منظومة من مناظير الراديو صنعها البشر.
[زودني ماثيو بهذه الصورة لمنظومة الكيلومتر مربع، و توجد صور أخرى في الموقع الرسمي: https://www.skatelescope.org]
تهدف منظومة الكيلومتر مربع لاستكشاف الكون، و يقوم عليها مئات الفيزيائيين و الفلكيين و المهندسين و الفنيين و الحاسوبيين من جامعات و مراكز بحثية في مختلف أنحاء العالم. و ستبدأ عملها تدريجيا ابتداء من العام 2020م. و يتم حاليا الإعداد لبناءها في كل من أستراليا و جنوب أفريقيا، و ذلك في مناطق معزولة عن ضوضاء المدن و إشعاعاتها. و ستنفق عشرة دول أكثر من 650 مليون يورو للمرحلة الأولى من هذا المشروع.
تجاذبت و ماثيو أطراف الحديث، و اتفقنا في تطلعنا لمساهمة الدول العربية و باحثيها في مسيرة استكشاف ما في أعماق الفضاء من خلال المشاركة في ‘منظومة الكيلومتر مربع‘!
في هذا المقال، سأحدثكم بإيجاز عن ‘علوم‘ هذه المنظومة!
خلفية:
إذا سرت بسيارتك في شوارع الرياض وقت الزحام –خصوصا مع الأعمال القائمة حاليا–؛ فستعرف قيمة عبارة: “شغل الراديو!”. توجد اليوم إذاعات عديدة تساعدنا على قتل الملل و إثراء وقتنا في سيرنا السلحفائي خلال الزحام. إن المذيعين يرسلون أصواتهم عبر ‘موجات الراديو‘ إلى ‘اللاقط‘ الموجود في سيارتك. و كل إذاعة لها موجة محددة نصل إليها بضبط الراديو يدويا.
كما تصل موجات الراديو إلى سياراتنا من الإذاعات الأرضية، فإنها تصل إلى أرضنا من الفضاء. هناك إذاعة ‘قلب المجرة‘، و إذاعة ‘غبار ما بين النجوم و المجرات‘، و إذاعة ‘ما قبل النجوم و المجرات‘! إذ تصدر –أو صدرت– عن كل تلك المناطق الفضائية موجات راديو مختلفة أنواعها لأسباب طبيعية –و ربما يصدر بعضها من محطات لمخلوقات أخرى ذكية مثلنا!- و بإمكاننا التقاطها و دراستها في الأرض، و بهذا نتعلم الكثير عن كوننا و حالة الأشياء الموجودة في تلك المناطق –أو الحقب الزمنية المختلفة من عمر الكون-.
أن نرى ما لا نراه!
ليس بإمكان الإنسان رؤية موجات الراديو بعينه المجردة. و لكن كما أن أعيننا قادرة على استقبال موجات الضوء المرئي، و عقلنا قادر على تحليلها و إخراجها على شكل صور لما حولنا، فإن منظار الراديو هو عيننا القادرة على استقبال موجات الراديو، و الحواسب هي عقلنا الذي يحلل تلك الموجات حتى تخرجها شاشاتنا على شكل صور لما في الفضاء.
و برصد موجات الراديو و تحليلها، نرى ما لا نراه بأعيننا المجردة. خذ على سبيل المثال كوكبة هرقل، و التي تشتمل على ‘مجرة‘ هرقل التي تراها بارقة في منتصف الصورة اليمنى من الشكل التالي (مصدر Hubble Telescope and VLA).
إن الصورة اليمنى كانت قد التقطت بواسطة المنظار الفضائي هابل، و هو الذي يرصد الضوء المرئي القادم من الأجسام المضيئة –أي ترسل ضوءا مرئيا لأعيننا– في الفضاء. و في هذه الصورة لا نرى إلا ما هو اعتيادي. و لكنك إذا نظرت إلى المجرة نفسها بمنظار راديو –كما فعلت منظومة مناظير الراديو المسماة بـ‘المنظومة الضخمة‘ في أمريكا– سترى الشكل الظاهر في الصورة اليسرى من الشكل السابق. إن هذا الامتداد الزهري هو ما يراه منظار الراديو. و لكن تنبه عزيزي القارئ إلى أن اللون الموجود في الصورة ليس لونا حقيقيا، بل إنه لون زائف يساعدنا لتصور ما يراه منظار الراديو. و من خلال هذا الشكل، تعرف العلماء على وجود ‘ثقب أسود‘ في قلب تلك المجرة، و هذا اللون الزهري هو فيض من البلازما –ذرات متأينة– و هي التي خرجت مقذوفة من قلب تلك المجرة.
كيف نرصد موجات الراديو الفضائية؟
و منظار الراديو قد يكون أحد شيئين:
1- الصحن: و هو الذي يشبه ‘الدش‘ الذي يستقبل القنوات الفضائية، و مهمته أن يجمع موجات الراديو و يركزها نحو اللاقط.
2- الأناتل: و هي التي تستقبل موجات الراديو بشكل مباشر –أي بدون عملية التركيز كما في الصحن-.
و الشكل التالي يوضح الفكرة.
و لكن تكوين صورة ذات جودة عالية للجسم الذي صدرت عنه هذه الموجات يشكل تحديا لعلماء الفيزياء و الفلك. و سأبسط لكم الفكرة بالمثال التالي: ربما تعرف أنك إذا نظرت إلى الضوء القادم من سيارة بعيدة، فإنك ستراه و كأنه ينبع من مصدر واحد، لأن عدسة عينك لا يمكن أن تميز وجود مصدرين للضوء في السيارة –الكشافان الأماميان– إلا إذا اقتربت السيارة منك أكثر فأكثر، أو إذا استعنت بمقرب أو منظار له عدسة أكبر من عدسة عينك. و هذا ما يمثله الشكل التالي:
و كذا فإن منظار الراديو له درجة محددة من القدرة على التمييز بين مصدرين من مصادر موجات الراديو و خصوصا إذا كانت بعيدة جدا كما هو حال الغاز الكوني –أكثره هيدروجين– الذي وجد قبل نشوء النجوم.
حل المشكل و منظومة الكيلومتر مربع؟
إن أحد مهام علماء الفيزياء و الفلك هي زيادة ‘درجة وضوح‘ مناظير الراديو بأكبر قد ممكن. و طالما أننا لا يمكن أن نقترب كثيرا من تلك المجرات البعيدة، فإن الحل هو أحد أمرين: إما أن نبني منظارا واحدا عملاقا، أو أن نبني مناظير كثيرة و صغيرة نسبيا، ثم نجعلها تعمل و كأنها منظار واحد. و هذه الطريقة الأخيرة هي ما ستكون عليه ‘منظومة الكيلومتر المربع‘ كما يوضح الشكل التالي:
إن العدد المهول من الصحون (حوالي 2000) و الأناتل (حوالي مليون) التي سوف تستخدم في التجربة سيمكن العلماء من مسح مساحات شاسعة من الفضاء، و التقاط موجات الراديو بمختلف تردداتها، و كذا مراقبة موجات الراديو القادمة من اتجاهات مختلفة في الوقت نفسه. و المدهش بحق هو أن المنظومة ستتفوق في سرعة مسح الفضاء و رؤية وجهه الراديويّ على كل المنظومات الموجودة اليوم بمليون مرة!
فوائد علمية؟
إن رحلة اكتشاف الكون لا تنتهي، فهناك العديد من الأسئلة التي ما زالت تحير العلماء. على سبيل المثال، طبيعة المادة المظلمة (المادة السوداء) التي تملأ المجرات غير معروفة حتى اليوم. و كذلك الطاقة المظلمة التي تملأ الكون. و ما زال هناك الكثير لنتعلمه عن تاريخ كوننا و بداياته و تطوره، و كذلك عن المجرات و تجمعات المجرات. و بناء منظومة الكيلومتر مربع سوف تمكن العلماء من استكشاف الكون في تلك المستويات بدقة لم يسبق لها مثيل. مما يعني احتمالية الوصول إلى الكثير من الاكتشافات الجديدة و ربما المفاجئة. و هذا هو هدف العلوم الأساس: دراسة و استكشاف الكون.
فوائد اقتصادية و غيرها؟
إن بنية هذا المشروع تتطلب ابتكارات جديدة كثيرة، لذلك تقوم العديد من المجموعات البحثية حول العالم في دراسة هذا المشروع و طرح المقترحات و الحلول و التطلعات الخاصة بعمل المنظومة. و هناك فوائد صناعية حيث يحتاج المشروع إلى مساهمة الكثير من المصانع الناشئة، مما يعني أن تلك المصانع سوف تكتسب الخبرة التقنية التي تؤهلها للنمو و التطور.
أما من حيث تقنيات الاتصال و البيانات، فإن حجم البيانات التي ستستهلكها التجربة في سنة أكبر من كل البيانات الموجودة في الانترنت! و سيتم نقل هذه البيانات بشبكة من الكيابل الضوئية التي لو مدت لغطت الأرض مرتين! مما يعني أن المشروع يتطلب بناء كمبيوتر فائق، ويحتاج إلى مهارات تقنية و فنية و هندسية عالية.
خاتمة:
إن منظومة الكيلومتر مربع هي عيننا للكون، فمنها سنرى حال الكون قبل مليارات السنين، و سنعرف المزيد عن المجرات و ما بينها، و سيستفيد منها آلاف العلماء و المهندسين و التقنيين، و ستخلق بسببها آلاف الوظائف و بالتالي المزيد من النمو الاجتماعي و الاقتصادي، و سوف تخرج عنها مبتكرات و مخترعات و مكتشفات من شأنها أن ترتقي بالإنسان على المدى القريب و البعيد. كل ذلك سيحصل بسبب فضول الإنسان و كرمه مع ظواهر الطبيعة!
جميع حقوق النشر محفوظة لمَعين يحيى بن جنيد، مدونة فوضى، 2006-2015 ©
لا يسمح بنقل أو نشر أي مقال أو صورة بدون استئذان؛ إلا بإشارة مباشرة لاسم الكاتب: مَعين يحيى بن جنيد، و رابط المدونة: https://www.physlad.com/arblog/wordpress/ كمصدر.
هذا المُصنَّف مرخص بموجب رخصة المشاع الإبداعي نسب المصنف – غير تجاري 4.0 دولي.
جزيت خيرا على هذا الاثراء