يقول “كبسولة تفكير” معقبا على موضوع: جسيم هيجز: الحلقة المفقودة في معادلة الكون!:
“يبدو أننا لا نستشعر وقوفنا على أعتاب لحظة تاريخية في رحلتنا لفهم الطبيعة، ومن المؤسف ضعف المتابعة العربية وشح المعلومات عن المشروع ذو الأهمية والأثر البالغ على مستقبل البشر والعلم.
على هامش الموضوع، لو سمحنا لأنفسنا أن نعبر عن مايتبادر في أذهاننا، فسنطرح أسئلة من قبيل، كيف يكتسب بوزون هيجز كتلته، كيف يكتسب الإلكترون شحنته، كيف يكتسب الضوء سرعته، ماهي الشحنة، ماهي الكتلة، ماهي الطاقة، ماهو المكان، ماهو الزمان، ماهو الحدث، رغم أننا نعرف تأثير الشحنة والكتلة وسرعة الضوء ونتعامل مع الطاقة والزمان والمكان بقدرة عالية ومتقدمة، إلا أن أسئلة أولية عن ماهية هذه الأشياء وليس آلية عملها وتفاعلها، توقعنا في حيرة من أمرنا. لا أدري إلى أي مدى وصل العلم في إجابته عليها، رغم أولية وفلسفية وجدلية هذه الأسئلة إلا أنها تبدو مبررة وذات أهمية!
فلو أستطردنا على هذا النسق وقلنا، كيف تتحول الكتلة من كتلة إلى طاقة، إلى فوتون بسرعة الضوء، كيف يتحول فوتون بسرعة الضوء إلى كتلة ساكنة تقريباً، بالطبع يعرف العلم شيئاً عن ذلك لكن بشكل محدود، فلو إفترضنا جدلاً أن هناك كاميرا تصور الفوتون لحظة بلحظة فكيف ستظهر عملية تحوله لكتلة أو عملية تحول الكتلة لفوتون، لحظة التحول هذه كيف ستظهر على شريط الفيديو، هل يستطيع العلم الإجابة عن هذا السؤال! هل يكون في لحظة فوتون وفي اللحظة المباشرة لها كتلة! أم أن هنالك مرحلة إنتقالية!؟ لا أظن أنهم يرون ذلك في مصادم الهادرون الكبير، هناك توجد كاشفات تكشف نواتج التصادم ومساراته إلخ.. ولا يبدو أنها تكشف عملية ولحظة التحول بحد ذاتها. وإن كانت تقوم بذلك فسيكون أمراً مثيراً جداً، وأتمنى أن أطلع عليه…. “
و كان الرد:
مرحبا كبسولة تفكير. أولا أشكرك لمداخلتك الجميلة. حقيقة، بعض الأسئلة التي طرحتها توجد لها إجابات و بعضها ما زالت مجهولة الجواب حتى اللحظة، و بعضها له عمق لم أصل للمرحلة التي تسمح أن أقدم رأيي فيه. و لكن دعني أعود إلى نقطة أكثر أساسية من كل هذه الأسئلة!
تخيل أن هذا الكون لعبة أو جهاز، و أننا اُهدينا هذه اللعبة.. اللعبة بها مجسمات لها أشكال و ألوان و أحجام.. يتحرك بعضها بسرعات مختلفة، و بعضها يلتحم ببعض لتكون مجسما جديدا، و بعضها تتفكك إلى مجسمات صغيرة، و هكذا. و لكن لا تتخيل أنها مثل ألعاب الواقع إذ نستطيع أن نجيب عن كل سؤال يخطر ببالنا عنها من خلال الرجوع إلى كتيب اللعبة أو سؤال الشركة المصنعة أو الاستعانة بكتب متخصصة أو مواقع الانترنت. بل افترض أننا لا نستطيع أن نعرف أي شيء عن اللعبة إلا من خلالها هي نفسها. و مهمتنا أن نفهم اللعبة و مكوناتها و كل شيء فيها و أن نؤلف نحن الكتب المتخصصة عنها. فسؤال مثل: كيف اكتسب ذلك الشيء لونه؟ لن تكون الإجابة عنه: هذا صبغت في المصنع. بل سيكون سؤالا لا يمكنك الإجابة عنه إلا من خلال ما لديك من مكونات اللعبة. و كذلك: لماذا يتحرك ذلك الجسيم بهذه السرعة تحديدا؟ و كيف اكتسب سرعته؟ ما هو اللون أصلا؟ كل هذه ستكون أسئلة لا تستطيع أن تجيب عنها إلا من خلال فهم ما يوجد لديك من مكونات اللعبة.
مجرد أن نتخيل هذا الأمر، سنكتشف أنه توجد أسئلة تستحق أن نبحث عن إجابتها قبل أسئلة أخرى. و توجد أسئلة قد لا نستطيع أن نجيب عنها أبدا. و الطريقة التي نفهم بها اللعبة هي أن نراقب و نرصد و نجرب و نكون فرضيات و نختبر فرضياتنا.. كل هذا سيبني فهمنا أكثر فأكثر و هذا بالضبط هو وضعنا مع الكون.
أن نسأل كل الأسئلة التي تخطر ببالنا هو أمر مطلوب و سهل في الوقت نفسه، و لكن، الأصعب أن نسأل الأسئلة التي نحتاج أن نجيب عنها أولا لكي نستطيع أن نجيب عن الأعمق منها. و بناء على كل القرون التي قضاها العلماء بحثنا عن أسئلة عميقة و إجاباتها، فإننا عندما نتعامل مع الكون فإن مهمتنا في النهاية أن نسأل، ما هي المكونات الأساسية لهذه المنظومة؟ و كيف تتفاعل فيما بينها لتعطي كل هذه الأشكال و الأنواع؟ و بهذه الطريقة يمكن أن نفهم الكون بشكل أعمق و نجيب عن أسئلة أصعب.
تذكر عزيزي أنه يجب علينا أن نجتهد في تشكيل أسئلة عميقة بما فيه الكفاية لكي تستحق أن نجيب عنها، و في الوقت نفسه سهلة بما فيه الكفاية لنستطيع أن نجيب عنها كما يقول إدوارد ويتن. و هذا هو المقوم الأساس للعلوم و البحث العلمي عامة. أحيانا نسأل سؤالا و نحاول أن نرصد الإجابة. و أحيانا نكتشف من خلال الرصد أو التجربة أننا سألنا السؤال الخطأ، أو أن يقودنا سؤال إلى ما هو أعمق منه و أكثر أولوية للإجابة. و لا أقصد سهلة بمعنى أنها سطحية، فسؤال مثل: “هل يوجد جسيم هيجز؟” تطلب بناء جهاز على مدى ٢٥ عاما و بتكلفة تقدر بميزانيات دول، و لكن من خلال هذا الجهاز سوف نجد الإجابة بإذن الله.
أتمنى أن أكون استطعت في هذه العجالة أن أوضح إلى حد ما تصوري فيما يتعلق بالأسئلة التي نسألها عن الكون. و وسائل صياغة هذه الأسئلة و وسائل الإجابة عنها. فالسؤال عن ماهية الأشياء و ترك السؤال عن مكوناتها الأولية و آلية عملها و تفاعلاتها هو سؤال مستحيل فيما يتعلق بالكون، و سيكون إضاعة للوقت و الجهد لأنه بحد ذاته سؤال فلسفي. و لكن قد نعرف الأشياء بشكل أعمق إذا عرفنا كل ما يتعلق بمكوناتها و آلية عملها و تفاعلاتها. و هو أمر ما زلنا في بداياته بالنسبة لدراسة الكون. ولكن اسمح لي أن أسألك: ما معنى ماهية الشي؟
الآن دعني أتطرق لبعض أسئلتك:
إذا وجد جسيم هيجز، فهذا يدل على وجود حقل هيجز و الاضطراب في حقل هيجز هو ما يعطيه كتلته. إذن مفهوم الحقل هو الأساس. أكثر أساسية من الكتلة. و لكن قد تسأل من أين أتى الحقل؟ من أين أتت طاقة الحقل؟ ما هي الطاقة؟ و هي أسئلة لا إجابة لها حاليا. -لاحظ أن مفهوم الحقل الكمي لم يثمر عن نظريات قادرة على تنبؤ الكون بشكل دقيق جدا إلا قبل ما يقترب من ٥٠ عاما- و أن مفهوم حقل هيجز اقترح قبل ما يقترب من ٤٠ عاما، و لم نستطع أن نكون في وضع يؤهلنا لاختباره إلا قبل ثلاث سنين. إذن يجب أن نتنبه إلى حداثة كل هذه النظريات و نجاحاتها التي قدمتها خلال هذه المدة القصيرة لفهم الكون.
الشحنة الكهربية هي خاصية من خصائص الجسيمات الأولية (بعضها لا تحمل شحنة كهربية). و على الرغم من الإبهام الذي قد يتصل بماهية هذه الخاصية الأساسية، غير أننا نعرف عنها الكثير. و هي ليست النوع الوحيد من الشحنات في الكون فهناك ما يسمى الشحنة اللونية. مثلا، من خلال معرفتنا بنوع الشحنة التي يحملها الجسيم و مقدارها بإمكاننا معرفة نوع التفاعلات التي يخضع لها، و ماذا سحيصل لها عندما تتفاعل مع غيرها من الجسيمات (مثلا مسارها أو سرعتها و غيرها). لكن باختصار، لا أحد يعرف حاليا كيف يكتسب الالكترون هذا القدر تحديدا من الشحنة و لماذا. و لكن هناك الكواركات و هي تحمل شحنات الكترونية عندما تجتمع ثلاثة منها فهي تعادل شحنة الالكترون. هذا أيضا سؤال مهم في فيزياء الجسيمات، هل هي صدفة أم هناك سبب أعمق؟
أما أن نرصد و نصور آلية انتقال الضوء من طاقة إلى كتلة، فهذا يدخلنا في قضيتين، الاستحالة التقنية لهذا الشيء، حيث إنك تستخدم الجسيمات الأولية لرصد الجسيمات الأولية (مثل الالكترون و الكواركات و الفوتون…) و الجسيمات المركبة من جسيمات أولية (مثل النواة و الذرة…)، تحتاج إلى جسيمات أولية أدق من الفوتون و طاقتها لا تقوم بتغيير حالة الفوتون لكي ترى تلك العملية و هو أمر غير موجود حاليا. -و لكننا نعرف نظريا و تجريبيا متى تحديدا يمكن لفوتونين أن يتحولا إلى كتلة و العكس، و هي تجربة ترصد يوميا في المسارعات و الكواشف. فنحن نرى في الكاشف وجود جسيمين و تحولهما إلى ضوء، و نرى العكس. و هذا بحد ذاته أمر عظيم و مثير للاهتمام إذا فكرت فيه مليا. أما تصوير كيفية تحول الطاقة إلى كتلة و كأنك تصور حقولا كمية تتجمع على بعضها حتى تصل إلى حالة رنين على شكل كتلة -ما هو شكل الكتلة في ذلك المتسوى؟-، فهذا يستحيل تقنيا و لكننا نعلم أنه يحدث لأننا كما قلت نرى تحول الفوتونات إلى جسيمات و العكس-. (أيضا تذكر التفاعلات الكيميائية، من كان يتخيل أننا سوف نستطيع رصد عملية التفاعل نفسها في يوم من الأيام؟ و قد حدث هذا الشيء حديثا.)
و من ناحية رياضية، لا نقدر التنبؤ بما يجري في تلك المنطقة الضيقة- أي لحظة التحول نفسها- لأن نظرياتنا لا تستطيع أن تصف هذه المنطقة من الأحداث بسبب أنها تصبح أنظمة تحتاج أن توصف بمعادلات غير خطية لا يوجد لها حلول رياضية. و لكن بمزيد من الاستكشاف للكون، و مزيد من الأبحاث النظرية قد نصل في يوم من الأيام للقدرة على الإجابة عن أسئلة كهذه. و يوجد مجال بحثي حديث the AdS/CFT Correspondence قد يقدم لنا إجابات للأسئلة التي تحوم حول تلك المنطقة الغير خطية.
إذن جميع الأسئلة التي سألتها يستطيع العلم أن يجيبك عنها: إما جواب للسؤال، أو لماذا لا نستطيع أن نجيب عن السؤال، و هل نتوقع أن نستطيع أو لا.
كل ما تستطيع الفيزياء فعله هو الإجابة عن أسئلة مادية تستطيع الإجابة عنها، فالكون المادي هذا، سنعرف عنه كل ما نستطيع أن نعرف. و لكن دائما سنجد أن معرفتنا قاصرة بسبب: قصور في وسائل التجربة و الرصد و الرياضيات. و مجال مثل فيزياء الطاقة العالية هو من المجالات التي تدفع التجربة و الرصد و الرياضيات إلى أقصى حدودها.
اعذرني على عدم التطرق لكل الأسئلة، و لكن كان هدفي أن أبين لك كيف ينظر فيزيائيو الجسيمات الأولية و علم الكون و فيزيائيو الأوتار لمثل هذه الأسئلة. و أيضا اعذرني إذا كررت بعض الأفكار أو لم أوفق في شرحها كما ينبغي. و لكن أعدك أنني سأعود عندما تسمح الفرصة لتوسعة الموضوع و الحديث بشكل أعمق و أدق. و ربما ندخل الجانب الفلسفي فيه.
تحياتي لك،
مَعين
——–
أشكر كبسولة تفكير على السؤال الجميل مجددا، و أرجو أن نثري هذا النقاش بالمزيد من الأفكار.