[تحديث: في تاريخ 4 يوليو 2012 م. أعلنت تجربتي أطلس ATLAS و “سي ام اس” CMS في مختبر سيرن CERN عن اكتشاف جسيم أولي له خصائص جسيم هيجز. و خلال الأشهر الماضية كل التحليلات -و ما زالت التحليلات قائمة- تؤيد أن الجسيم المكتشف هو جسيم هيجز الذي انتظره مجتمع فيزياء الطاقة العالية أكثر من 40 عاما]
مدخل:
خلال القرنين الماضيين، استطاع الإنسان أن يتعلم الكثير عن الكون الذي يعيش فيه. و لا يعني هذا أنه قد عرف كل شيء، بل إن قمة ما توصل إليه العلم اليوم هو أننا نجهل ٩٦٪ من الكون. على أي حال، معرفتنا بالـ ٤٪ من الكون تتمثل في نظرية علمية يعدها أكثر العلماء أعظم إنجاز بشري و تسمى الأنموذج العياري The Standard Model. و هي مبنية على أعمال و أبحاث تمتد إلى ١٠٠ سنة، و ركناها الأساسيان هما: النظرية النسبية الخاصة و ميكانيكا الكم (الكوانتم) Quantum Mechanics.
لقد تم اختبار الأنموذج العياري من خلال تجارب عديدة كلفت ميزانيات ضخمة1 و ما زالت الاختبارات التجريبية قائمة من خلال المصادم الهادروني الضخم the LHC في سيرن CERN و الذي كلف بناؤه ما يزيد عن ١٠ بليون دولار. و في كل الأحوال، ما زالت النظرية قادرة على التنبؤ و تفسير نتائج تجارب فيزياء الطاقة العالية.
على الرغم من كل هذه النجاحات، غير أن الأنموذج العياري يحوي حلقة مفقودة، سعى العلماء لوصلها منذ ما يقترب من ٥٠ عاما و ذلك بمحاولة اكتشاف ما يسمى بـ بوزون هيجز أو جسيم هيجز Higgs Boson. و في الأنموذج العياري، يعد مجال هيجز هو المسؤول عن وجود خاصية الكتلة للمادة من خلال ما يسمى بآلية هيجز، و عندما يعطي مجال هيجز كتلة للأشياء فإنه يترك ورائه جسيم هيجز. و هيجز هو اسم العالم البريطاني الذي صاغ هذه الآلية في الستينات الميلادية.
آلية هيجز، و مجال هيجز، و جسيم هيجز؟
و من باب التيسير، بإمكاننا أن نعيد صياغة المثال الشهير الذي وضعه الفيزيائي البريطاني ديفيد ميلر2 لكي يوصل فكرة “آلية هيجز” لعامة الناس بناء على طلب عام من وزير العلوم آنذاك (عام ١٩٩٣م).
تخيل قاعة بها مجموعة من المثقفين، ثم يدخل عليهم فجأة روائي معروف، و كلما تحرك الروائي كلما تجمع المثقفين حوله حتى تصبح حركته صعبة أكثر و أكثر. إذا تخيلنا أن المثقفين هم “مجال هيجز”، فإن تجمعهم على الروائي الكبير (تخيل أنه جسيم أولي مثل الالكترون) هو ما يعطيه خاصية الكتلة.
الآن لو تخيلنا أن الذي دخل إلى القاعة هو عامل صيانة، فإنه سيقطع القاعة دون أن يعترضه أحد. هذا العامل يمكن أن نتخيله على أنه جسيم عديم الكتلة مثل الفوتون (الضوء).
و أخيرا، لو افترضنا أن إشاعة ما قيلت في القاعة، فإن المثقفين سوف يتجمعون حول بعضهم لمناقشة الإشاعة هذه، و تجمع المثقفين على بعضهم يمكن تخيله على أنه “جسيم هيجز” نفسه. انتهى المثال.
إذن هناك ثلاثة مفاهيم إن صح التعبير: آلية هيجز، و مجال هيجز، و جسيم هيجز. و ملخص القول -كما ذكرنا سابقا- هو إن “آلية هيجز” تفترض وجود “مجال هيجز” في الكون، و عندما ينشأ جسيم أولي (كالإلكترون) في بدايات الكون فإنه ينشأ عديم الكتلة، ثم عند تعرضه لمجال هيجز فإنه يكتسب خاصية الكتلة (و بعض الجسيمات لا تشعر بمجال هيجز كالفوتون). و نشوء “جسيمات هيجز” هو من تبعات هذه الآلية.
ما الصعوبة في رصده؟
لذلك، إذا أردنا أن نتأكد تجريبيا أن آلية هيجز هي التي تعطي خاصية الكتلة للأشياء، فيجب أن نتمكن من رصد جسيم هيجز تجريبيا. و هذا هو أحد أهم أهداف تجارب فيزياء الطاقة العالية و على رأسها تجربة المصادم الهادروني الضخم the LHC الواقع في معمل سيرن CERN.
غير أن محاولة رصد جسيم هيجز استغرقت -و ما زالت- ما يقترب من ٥٠ عاما. و السبب هو أنها عملية غاية في التعقيد و تتطلب: أجهزة ضخمة قادرة على تسريع الجسيمات الأولية إلى طاقات غير مسبوقة في الأرض -في حيز ضيق جدا-، بالإضافة إلى أجهزة رصد حجم أحدها يساوي ربع ملعب كرة قدم، و كل هذا من أجل رصد حادثة واحدة لجسيم يصغر شعرة الرأس بآلاف المليارات من المرات -إن وجد-.
دعونا نستعين بالأرقام3 لكي تزيد الصورة وضوحا: معدل إنتاج جسيمات هيجز هو: ٠.٠١ حدث لكل ثانية عندما يكون المصادم الضخم في أقصى طاقاته. لكي نعرف أين يكمن المشكل4، فإن معدل إنتاج جسيمات أخرى -لا حاجة لذكر أسماءها- يتجاوز ١٠٠٠٠٠٠ (مليون) حادثة لكل ثانية في التصادم نفسه الذي من المفترض أن ينتج جسيم هيجز، و إذا عرفنا أنه توجد مئات الجسيمات التي تنتج في المصادم بمعدلات تتجاوز معدل إنتاج جسيم هيجز بمليارات المرات كما أسلفت، فإننا حينها ندرك مدى صعوبة استكشاف هذا الجسيم (جسيم هيجز). فهذه العملية هي بمثابة البحث عن نملة وسط صحراء شاسعة. و توجد مصاعب أخرى لن أتطرق لها. و لكن، و إن كانت هذه المهمة تكاد أن تكون مهمة مستحيلة، غير أن العلماء ما زالوا يحاولون رصد الجسيم -إن وجد-.
هل تم اكتشافه؟
في شهر ديسمبر الماضي، تحدث متحدثان يمثلان تجربتين مستقلتين في المصادم الضخم the LHC، عن نتائج البحث عن جسيم هيجز في الكاشفين ATLAS و CMS. و النتائج التي تم عرضها ليست قاطعة، و لكنها تدعم وجود جسيم هيجز. حيث إن كلا التجربتين رصدت احتمال وجود جسيم يطابق صفات جسيم هجيز، و من خلال تحللات جسيمية مختلفة، كلها تشير إلى أن هذا الجسيم يقع في مدى من الكتلة يقترب من ١٢٥ جيف5. و لكن ما زال الأمر يحتاج إلى مزيد من البيانات و التحليل، فقد يكون هذا الرصد عبارة عن خطأ إحصائي، نظرا إلى أن التجربة تتعامل مع معدل بيانات في “الثانية الواحدة” يساوي عدد البيانات لو أن كل أهل الأرض تكلموا في الهاتف في الوقت نفسه6. لذلك فإن التعامل مع هذه البيانات يتطلب تقنيات إحصائية و حاسوبية معقدة، و عليه فإن الأخطاء تحدث بشكل دائم، و دراسة هذه الأخطاء هو جزء غاية في الأهمية في التجربة التي يقوم عليها آلاف العلماء و طلبة الدراسات العليا و الفنيين.
الشيق في الأمر، هو أن البيانات التي سيتم جمعها في هذا العام، ستكون كافية لإثبات وجود جسيم هيجز أو نفيه. فإذا ما تم إثبات وجوده فإن ذلك يعني أن الحلقة المفقودة في الأنموذج العياري قد اكتملت و سيحصل الفيزيائي هيجز على جائزة نوبل. و أما إذا تم نفي وجوده، فإن ذلك يعني أن على الفيزيائيين أن يفكروا في آلية أخرى غير آلية هيجز، و أن يسعوا إلى معرفة تنبؤاتها و محاولة اكتشافها و التأكد منها، و كتابة نظرية جديدة تتوافق معها. و هذا الأمر يتمناه كثير من الأجيال الجديدة في عالم فيزياء الطاقة العالية و الكون.
كتبه: مَعين يحيى بن جنيد
٢٦ ربيع الأول ١٤٣٣ هـ
- في معمل سيرن CERN و فيرمي لاب FermiLab و لوس ألاموس Los Alamos و بروكهافن Brookhaven و غيرها [↩]
- http://www.hep.ucl.ac.uk/~djm/higgsa.html [↩]
- من محاضرة لبروفيسور آلان مارتن Alan Martin عندما كنت طالبا في جامعة درم Durham [↩]
- كلمة المشكلة يعدها علماء اللغة خطأ، و الصحيح أن نقول مشكل [↩]
- جيف: جيجا الكترون-فولت. و هذا الرقم أكبر من كتلة البروتون -أحد مكونات النواة- ب ١٢٥ مرة. [↩]
- من كتاب مدخل إلى الجسيمات الأولية للبروفيسور فرانك كلوز Frank Close [↩]
يبدو أننا لا نستشعر وقوفنا على أعتاب لحظة تاريخية في رحلتنا لفهم الطبيعة، ومن المؤسف ضعف المتابعة العربية وشح المعلومات عن المشروع ذو الأهمية والأثر البالغ على مستقبل البشر والعلم.
على هامش الموضوع، لو سمحنا لأنفسنا أن نعبر عن مايتبادر في أذهاننا، فسنطرح أسئلة من قبيل، كيف يكتسب بوزون هيجز كتلته، كيف يكتسب الإلكترون شحنته، كيف يكتسب الضوء سرعته، ماهي الشحنة، ماهي الكتلة، ماهي الطاقة، ماهو المكان، ماهو الزمان، ماهو الحدث، رغم أننا نعرف تأثير الشحنة والكتلة وسرعة الضوء ونتعامل مع الطاقة والزمان والمكان بقدرة عالية ومتقدمة، إلا أن أسئلة أولية عن ماهية هذه الأشياء وليس آلية عملها وتفاعلها، توقعنا في حيرة من أمرنا. لا أدري إلى أي مدى وصل العلم في إجابته عليها، رغم أولية وفلسفية وجدلية هذه الأسئلة إلا أنها تبدو مبررة وذات أهمية!
فلو أستطردنا على هذا النسق وقلنا، كيف تتحول الكتلة من كتلة إلى طاقة، إلى فوتون بسرعة الضوء، كيف يتحول فوتون بسرعة الضوء إلى كتلة ساكنة تقريباً، بالطبع يعرف العلم شيئاً عن ذلك لكن بشكل محدود، فلو إفترضنا جدلاً أن هناك كاميرا تصور الفوتون لحظة بلحظة فكيف ستظهر عملية تحوله لكتلة أو عملية تحول الكتلة لفوتون، لحظة التحول هذه كيف ستظهر على شريط الفيديو، هل يستطيع العلم الإجابة عن هذا السؤال! هل يكون في لحظة فوتون وفي اللحظة المباشرة لها كتلة! أم أن هنالك مرحلة إنتقالية!؟ لا أظن أنهم يرون ذلك في مصادم الهادرون الكبير، هناك توجد كاشفات تكشف نواتج التصادم ومساراته إلخ.. ولا يبدو أنها تكشف عملية ولحظة التحول بحد ذاتها. وإن كانت تقوم بذلك فسيكون أمراً مثيراً جداً، وأتمنى أن أطلع عليه.
السيد معين، إهتمامك وعنايتك بالعلم ونشره وتقريبه أمر جدير بالتقدير والإحترام، أتمنى أن أعود مجدداً لنثري هذا الصرح الجميل بالنقاش والحوار والتحليل، فملكة التكفير والتأمل التي لدينا ثمينة وراقية وكفيلة بإمتاعنا وإمتاع الأجيال القادمة لآلاف من القرون كثيرة، وتفويتنا لهذه المتعة خسارة كبيرة، للمتعة! وللعلم وللبشرية.
إلى كبسولة تفكير:
صديقي العزيز، حتى يتكون لدينا قهم واضح كغر اختصاصيين لمفاهيم الكتلة والطاقة والمادة، فالأجدى أن نفكر بمكون واحد ذو تجليات مختلفة….. فكما أن الترددات الكهرومغناطيسية تتجلى على أشكال مختلفة (الضوء المرئي، الحرارة “تحت الأحمر” وصعودا إلى فوق البنفسجي واكس …. كذلك الأمر بالنسبة للثانئية العامة (مادة-طاقة) أو (كتلة-سرعة) فهكذا وبالانطلاق من نظرية الانفجار العظيم، يمكن فهم المادة على أنها تجلي من تجليات الطاقة…. وهي غير موجودة بحد ذاتها……
تحياتي لمنشئ الموقع…. بارك الله جهودك…
مع فائق الاحترام والتقدير…
مرحبا كبسولة تفكير، الرجاء مطالعة الرد في موضوع: “ماذا يمكن أن نعرف عن الكون”
الفاضل معين،
شكراً على هذه الإفاضة، أشعر بإمتنان شديد لتكبدك عناء التوضيح والشرح وبذل وقتك الثمين من أجل ذلك.
قرأت ردك أكثر من مرة لأنه يحوي تصورات وإشارات معينة من المهم أن أدركها بشكل دقيق، وعليه أريد أن أعود في سعة من الوقت تكفي للنقاش وإبداء الرأي وإستيضاح بعض النقاط.
إلى اللقاء،،
بل الشكر لك. و أنتظر ردك بشغف. فقلما تجد من يناقشك و يستحثك على التفكير بهذا العمق. تحياتي.
مجال هيجز هل يستحدث الطاقة ؟ وهل يستحدث الكتلة من العدم؟
آلية هذه النظرية صعبة و معقدة لكن هل لها عمليات حسابية ؟
او قاعدة رياضية ؟
هل نظرية هيجز تطبق على كافة الذرات في هذا الكون؟
لك جزيل الشكر ..
شكرا جزيلا يا أخ معين على هذا العرض المختصر التوضيحي، قدرة وجهد رائع في توضيح الفكرة لغير المختصين ، وكذلك عند ردك على “كبسولة تفكير”، رد يستحق الإفراد في تدوينة لأنه يحوي أفكارا هامة جدا في طريقة التساؤل العلمي
شكرا جزيلا مرة أخرى
عفوا ، انتبهت للتو للتدوينة الأخيرة :$