ماذا لو كانت النيوترينات أسرع من سرعة الضوء؟

[تحديث بتاريخ ٧ أبريل ٢٠١٢: قبل أسبوعين أو يزيد، استقال مدير المجموعة البحثية لهذه التجربة من منصبه.]
.
[تحديث: بتاريخ ٢٣ فبراير ٢٠١٢، تم إصدار بيان من معمل سيرن يبين أن القائمين على تجربة أوبيرا قد يكونوا اكتشفوا خللا في التجربة -يتعلق بالألياف البصرية- قد يؤدي إلى نفي النتيجة التي توصلوا إليها: و هي إن النيوترينات تسير بأسرع من سرعة الضوء. و إذا تم التأكد من هذا الخلل، فسوف تطوى صفحة هذه القضية، و تبقى النظرية النسبية و الفيزياء الحديثة التي بنيت عليها صامدة.]
.

نيوترينو Neutrino؟ O.o!

بداية: النيوترينو هو جسيم أولي يكاد يكون معدوم الكتلة، و ليست له شحنة كهربيائية، و يعد “أحد” مكونات الكون الأساسية1 -و هذا معنى جسيم أولي-. و من خصائصه الهامة أن تفاعله مع المادة من حوله نادر الحدوث2. مقارنة مثلا بالضوء الذي يتفاعل دوما معك -و مع الأشياء من حولك-3 حتى ينعكس منك و يراك من أمامك! أما النيوترينات فهي تخترقك و تخترق الأرض دوما بدون أن نشعر بها!

سفر عبر الزمن؟ o.O!

“فيخبره النادل: عذرا، ممنوع دخول النيوترينات. نيوترينو يدخل إلى مقهى،”!  –أصبح هذا المثال شائعا في اليومين الماضيين – على اختلاف الصياغة و لكن المضمون واحد- و هو كتابة الجملة بشكل زمني معكوس! و السبب وراء شيوع هذا المثال، هو الإعلان الأخير من تجربة OPERA التي تزعم أنها وجدت أن النيوترينات تسير بأسرع من سرعة الضوء (بأقل من ٦٠ مليار جزء من الثانية). و إحدى التبعات التي تلحق دائما بفكرة تجاوز سرعة الضوء هي: السفر عبر الزمن، و منها العودة بالزمن إلى الوراء. فالنيوترينات كما أشيع -من باب الدعابة أو سوء الفهم!- هم مسافرون عبر الزمن!

خلال مسيرة العلوم، تظهر بشكل مستمر نتائج -لو صحت- فإنها ذات وقع جوهري في العلوم، غير أن معظم تلك النتائج تظهر على أنها غير صحيحة، بناء على خطأ في التجربة أو التحليل الإحصائي المستخدم في التجارب، أو تفسير النتائج. فمثلا قبل شهر، كاد المجتمع العلمي الفيزيائي أن ينفجر بإعلان ٣ تجارب أنها قد تكون اكتشفت جسيم هيجز -و هو الجسيم الأولي الذي يفترض العلماء أنه المسؤول عن نشوء الكلتة لكل شيء ذي كتلة في الكون- و لكن، بعد أشهر من التدقيق، اتضح أن النتيجة لا تعدو أن تكون خطأ إحصائيا. و هناك أمثلة مشابهة كثيرة.

و في المقابل، توجد قصص عن نظريات أو تجارب تزعم ما له الوقع نفسه، و يرفضها المجتمع العلمي كله -إلا ما ندر- ثم يظهر أنها صحيحة، مثل نظرية آينشتاين التي نفت الصفة المطلقة للمكان و الزمان، و زعمت مما زعمت أن الضوء ينحني في مساراته و أن سرعة الضوء هي السرعة القصوى في الكون. و من ثم أتت التجربة لكي تؤيد كل ذلك، و خضعت النظرية و نتائجها للتشكيك كثيرا حتى أصبحت اليوم في عداد الحقائق العلمية.

و لكن، النتيجة الأخيرة التي تعلن أن النيوترينات أسرع من الضوء، إن صحت، فإنها سوف تغير كثيرا من المفاهيم. و تعيد صياغة القوانين و النظريات و النماذج الفيزيائية التي تصف الكون. و لكن ينبغي ألا نستعجل في الحكم بأنها صحيحة، لأن التجربة ما زالت بحاجة إلى المزيد من التدقيق في النتائج، فربما أن خطأ ما قد يظهر -كما يحدث دوما بعد التدقيق لأشهر-، أو تأتي تجربة أخرى لتنفيها، أو ربما يتنهي الأمر بإثبات نتائج التجربة!

التجربة:

من الخطأ في الصحافة، ربط هذه التجربة و المسماة بـ OPERA و مقرها في ايطاليا بتجربة المصادم الهادروني الضخم (the LHC) و المقامة في المعمل (سيرن) في سويسرا. و لكن تجربة أوبيرا تستقبل نيوترينات4 تنطلق من سيرن في سويسرا، و تخترق الأرض لمسافة ٧٣٢ كلم، حتى تصل إلى مختبر مجموعة OPERA بإيطاليا5

Credit: Giulio Frigieri

و ما قامت به مجموعة OPERA خلال الثلاث سنوات الماضية هو دراسة شعاع النيوترينات القادم من سيرن، محاولة فهم بعض خصائصه التي قد تساعد في حساب كتلة أحد أنواع النيوترينات. و بما أن تلك النيوترينات تقطع مسافة قدرها ٧٣٢ كلم، و بما أن وقت انطلاقها معروف -إلى حد ما، فالمسألة ليست سهلة كتحديد موعد انطلاق السيارات في سباق!- و المسافة معروفة، و هي تصل في زمن محدد -إلى حد ما، فتحديد زمن الوصول أيضا ليس سهلا في هذه العملية-؛ فإن الباحثين يستطيعون تقدير سرعة النيوترينات. و هم عندما فعلوا ذلك، وجدوا أنها وصلت في زمن يجعل سرعتها تتجاوز سرعة الضوء، و كرروا تجربتهم على مدى الثلاث سنوات، و خرجوا بالاستنتاج الذي مفاده أن النتيوترينات أسرع من الضوء.

لماذا كررت الجملة الاعتراضية: -إلى حد ما-؟ السبب هو أن عملية القياس لموعد الانطلاق و موعد الوصول تتم عن طريق استخدام أنظمة الـ GPS، و قد حاول الباحثون تجنب أي أخطاء في عملية القياس، و لكن عندما نتحدث عن مسافة قدرها ٧٣٢ كلم، و دقة في مستوى أقل من ذلك بأكثر ١٠٠٠٠ مليار مرة، فإن احتمال الخطأ وارد و كبير في تحديد الموقع. فضلا عن أن التجربة أهملت أخذ بعض الاعتبارات -مثل المد و الجزر لقشرة الأرض، و غير ذلك- و ذلك من باب أنها ضئيلة التأثير، و لكنّ بعض الباحثين طلبوا منهم أخذ كل شيء يستطيعون أخذه في الاعتبار، فربما اهمالها أدى إلى خلل! و ربما يوجد خطأ التحديد الإحصائي للوقت. إذن هناك احتمالات واردة للخطأ، و السبب إما خلل في الأجهزة، أو أخطاء إحصائية.

هذه كانت ردة فعل المجتمع العلمي الفيزيائي على التجربة، و هي ردة الفعل نفسها للفريق البحثي الذي أكد أنه بحاجة إلى المزيد من البحث، فربما يتم اكتشاف خطأ إحصائي، و كذلك ينبغي أن يتم تكرار التجربة في معمل آخر و الحصول على النتيجة نفسها، و التأكد من عدم ارتكاب الأخطاء نفسها. و هذه هي روح التجارب العلمية، و بسبب تلك الدقة؛ فإن كثيرا من التجارب الذي أعلنت توقع اكتشاف أو نقض ذهبت في أدراج المخازن!

و لكن، ماذا لو كانت النيوترينات تسير بأسرع من سرعة الضوء؟

أول شيء ينبغي أن يُقال في حالة التأكد من تجاوز النيوترينات لسرعة الضوء هو إن السفر عبر الزمن ليس مسموحا! فكما يبين الباحث الفيزيائي (شين كارول) Cean Carroll، في مقالته: فإن النيوترينات سوف تكون محدودة في تحركها بحيث تسير في خط الزمن المتدفق من الماضي إلى المستقبل، و معنى هذه الجملة، هو أنه توجد سرعة قصوى تمنع وقوع مفهوم السفر عبر الزمن، و ستكون هذه السرعة هي سرعة النيوترينات. و بالتالي سوف يتم تعديل النظرية النسبية!

هناك تفسير آخر، و لكن احتماله ضيئل، و هو وجود أبعاد إضافية، فالفيزيائية الكبيرة (ليزا راندال)، كانت قد قدمت أنموذجا نظريا -هي و الباحث (ساندرام)- يسمح في أحد تفرعاته بوجود نيوترينات تتجاوز سرعة الضوء  -فقط تحت ظرف وجود بعد مكاني إضافي-. و لكن، كما تبين في مقالها فإن هذا الأمر يحتاج إلى دراسة فيما يخص مدى توافق هذه الفرضية مع البيانات و النتائج المعروفة و الأكيدة من التجارب و الرصد الحالي.

و آخر تفسير سأذكره يأتي من نظرية الأوتار الفائقة. فالفيزيائي و الكاتب (لوبوس موتل) يشرح في مقالته فكرة كان قد طرحها الفيزيائي الكبير (ادوارد ويتن)، و هي تقول أن سرعة الضوء ليست السرعة الحدية في الكون، و إنما سرعة الجرافيتون (و هو الجسيم الافتراضي المسؤول عن نقل الجاذبية)، و عليه فإنه يمكن أن تكون النيوترينات أسرع من الضوء!

خاتمة

على أية حال، ما زال من الصعب جدا الثقة بنتيجة هذه التجربة. فالأيام و ربما الشهور المقبلة سوف تحمل -إن شاء الله- الإجابة النهائية، إما بالنفي -و هو ما يتوقعه الأغلبية- أو الإثبات -و هو ما تتمناه الأجيال الجديدة من الفيزيائيين و لا شك أنني أحدهم!-

 

مزيد من القراءات

Professor Einstein, you can relax. E still equals mc2. Probably ….

This Extraordinary Claim Requires Extraordinary Evidence.

Superluminal neutrinos – Physics Stack Exchange 

  1. و ليس المكون الأساسي للكون كما ورد في خبر صحفي لموقع إخباري بارز!! []
  2. لأنه يشعر بالقوة النووية الضعيفة فقط -و الجاذبية و لكنها مهملة- []
  3. لأن الضوء يشعر، بل هو ناقل القوة الكهرومغناطيسية التي هي الأكثر شيوعا في مقياس حياتنا و دونها و فوقها []
  4. و تحديدا نوع يسمى ميون-نيوترينو -لا عليك!- []
  5. تصل و قد تحولت إلى نوع آخر هو تاو-نيوترينو -أيضا لا عليك!- []

11 رأي على “ماذا لو كانت النيوترينات أسرع من سرعة الضوء؟”

    1. السلام عليكم
      بصراحة الموضوع كان شيق جداً واستفدت من الموضوع كثيييييير والله واتمنى يطلع عالم فيزياء عربي مسلم بعد الاستاذ أحمد زويل ونعيد شكرنا لهذا الموضوع

  1. دكتورنا -تفاؤلاً- الفاضل ما أروعك
    قليل من المتخصصين الرائعين يسعون لنشر الوعي والمعرفة الموثقة بين الناس بمثل ما فعلت في مقالك هذا
    شكراً كثيراً من الأعماق
    وبانتظار المزيد نقلاً ونقداً، وروحاً مفعمة بموازين العلم

  2. احسنت بارك الله فيك, شرح رائع وبسيط يدل على فهمك وعلمك وروعتك.
    استمر وفقك الله ونفع بك الإسلام والمسلمين.

    1. تقصد أكدتها مئات التجارب. عموما، يوجد من العلماء من افترض أن سرعة الضوء متغيرة على مدى عمر الكون. و لكن لم تثبت فرضياتهم من خلال الرصد أو التجربة.
      العقلية العلمية تبحث عن الحق دون التحيز لنظرية أو تجربة. بل من المتعة العلمية أن نحاول أن نكتشف “نقطة انهيار”
      نظرية ما، و أن “نقترح تجربة” لتأكيد ذلك. فإذا تأكد الأمر فزنا بجائزة نوبل! و إلا نفكر في نظريات أخرى. أو أن نؤكد نظريات موجودة و نزداد ثقة فيها. بشرط أن تكون زيادة الثقة نابعة من تجاوز النظرية لاختبارات و ليس لأننا “نحبها”.

  3. وما العجيب فى هذا الخبر وكل مسلم يعلم يقينا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أسرى وعرج به الى الملا الاعلى وعاد وفراشه دافىء ان هذه سرعه تفوق كل تصور ام اننا نتلوا ولا نتدبر ؟

    1. عزيزي ado
      مع احترامي لك، و لكن منطق كلامك غير سوي! لأن ما ورد في الدين ورد كإعجاز، و الإعجاز هو شيء “نؤمن” به و لا نستطيع أن “نكرره” في تجربة علمية مثلا!
      الموضوع هذا يتناول قضية “علمية” نستطيع أن “تختبرها” في المعمل. موضوع يتعلق ب”نظريات” و “فرضيات” يضعها الإنسان و يحاول أن يتأكد من صحتها “بالتجربة” و “الرصد”.
      من خلال النظريات و التجارب و الرصد على مدى أكثر من 100 عام، كل شيء في الطبيعة يؤكد صحة فرضية أن الضوء له سرعة ثابتة (في الفراغ) و أنها هي السرعة القصوى لنقل المعلومات في الزمان و المكان.
      أخيرا فإن التجربة التي كتبت عنها تبين أن فيها خلل، و “لم” يثبت أن النيوترينات تسير بسرعة أسرع من سرعة الضوء.
      أرجو أن نكون من المتدبرين و المتفكرين بحق!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *