عندما كنا صبيانا صغارا، كنا نذهب إلى “ملاهي الحكير للألعاب” في الرياض! و كانت من الألعاب المفضلة لدي و لأخواي؛ مكوك الفضاء دسكوفري Discovery. حيث هي عبارة عن مركبة على شكل المكوك، و بها مقاعد تتسع ربما لعشرة أشخاص أو أكثر، و بها شاشة كبيرة في المقدمة. و المركبة منصوبة على منصة، و كنا نصعد إليها شخصا تلو الآخر لندخل داخلها و يتخذ كل واحد منا مقعده! ثم تغلق البوابة و تطفأ الإضاءة.. و تبدأ الرحلة! حيث تهتز المركبة و الشاشة تُصوِّر مشاهد الإنطلاق إلى رحاب الفضاء، و ما بين حركات المركبة و اهتزازاتها، كانت المتعة البالغة في الشعور بالصعود إلى الفضاء. و كم كانت تلك اللعبة مؤثرة في ذلك الصبي الذي أصبح حلم حياته أن يصبح عالما و رائد فضاء!
بلا شك، لن تكون لهذه القصة الأثر نفسه على الفتيان في أمريكا و الذين شاهدوا بأم أعينهم إقلاع المكوك، فذلك المنظر الخلاب لا توازيه لعبة! و كذلك فإن ارتباط القارئ العربي بمكوك الفضاء قد يبدو غريبا، و لكن، انتهاء عصر المكوك هو شاهد على الفجوة العظمية بين العالم العربي، ثقافة و شعوبا و دولا، و بين العالم المتقدم الذي سبر الفضاء، و صنع المركبات التي تؤهله لذلك.
إذن، ما هي هذه المركبة؟ و كيف صنعها أولئك الغرباء؟ و لماذا؟ و بماذا استفادوا منها؟ و ماذا حققت لنا كبشرية؟ كل هذه الأسئلة و غيرها، سأحاولها الإجابة عنها بإيجاز.
بداية
في العام ١٩٨١م كانت أول رحلة لمكوك الفضاء، بعد سنوات من العمل و الاختبارات في فترة السبعينات الميلادية. و في العام ٢٠١١م كانت آخر رحلة، و عدد المكوكات الفضائية هو ٥، و أسماءها هي: كولومبيا، تشالنجر، دسكفري، اتلانتس، و اندوفير.
مكوك الفضاء هو أعقد مركبة صنعها الإنسان، حيث تتكون من أكثر من مليوني قطعة1 يجب أن تؤدي دورها بدقة لا خلل فيها لكي تنجح في إنطلاقها و عودتها. و يقودها رواد الفضاء الطيارين، و يراقبها و يوجهها مراقبون من الأرض. و يعمل عليها آلاف من المهندسين و التقنيين و الفنيين و غيرهم. و بذل العلماء جهدا طويلا حتى صمموها و اختبروها كآداة لنقل الإنسان إلى الفضاء و العودة به. و هي تشبه الطائرة، إذ يتم استخدامها أكثر من مرة، و بها مخزن يتم وضع الأقمار الصناعية و قطع الأجهزة التي يريد العلماء بناءها في الفضاء.
أما نقلها من مبنى التركيب إلى منصة الإقلاع (مسافة ٥ أميال)، فيتم عن طريق ثاني أضخم مركبة تمشي على الأرض، و تستغرق الرحلة لقطع ٥ أميال حوالي الخمس ساعات! ذكرت هذه المعلومة لكي أقارنها بالمكوك الذي عندما يقلع فإنه يقطع مئات الكيلومترات و يختفي عن النظر و يخرج عن الأرض في أقل من دقيقتين!
و عند الانطلاق، يكون القائد و طاقم المركبة داخل ملابسهم الخاصة و خوذاتهم التي تحافظ على الأكسجين و الضغط، و يتم ربطهم بشدة في وضعية أفقية لكي تتحمل أجسادهم قوة الدفع! تخيل نفسك في مصعد كهربائي، و تحرك المصعد فجأة و بسرعة إلى الأعلى. بماذا ستشعر في أول الأمر؟ أن وزنك قد زاد قليلا! نعم، و في مثل هذه الرحلات، يتعرض رواد الفضاء لزيادة وزن بـ ٣ أضعاف! و تنطلق المركبة بقوة دفع الصواريخ بسرعة تتجاوز ٢٧ “ألف” كيلومتر للساعة، و هي السرعة التي تمكن المكوك من الهروب من جاذبية الأرض! بعد ذلك، تتفكك الصواريخ الدافعة عائدة إلى الأرض لكي يعاد استخدامها، و يحترق مخزن الوقود -البرتقالي- في الغلاف الجوي، و تخرج المركبة سابحة في الفضاء بتلك السرعة الهائلة، حيث يطير بها و يوجها قائد المركبة إلى الوجهة التي يريدون حول الأرض. [شاهد الفديو: الإقلاع الأخير للمكوك اندوفير]
مهام و منجزات و كوارث
مجرد صناعة المكوك، أدى إلى تحديات علمية و تقنية (تكنولوجية) و هندسية، و بالتالي إلى أبحاث و ابتكارات و اختراعات جديدة، أدت في نهاية الأمر إلى إتمام المشروع بصناعة المركبة الاختبارية Enterprice، و التطوير المستمر لآداء المركبات و زيادة الوسائل التقنية التي تعزز سلامة المركبات. ثقافة التحديات و النظر في أسئلة علمية و تقنية لم يبحر تجاهها الإنسان من قبل، و من ثم محاولة إيجاد الحلول و التغلب على المصاعب، هو روح البحث العلمي الحديث، و روح التطويرات التقنية، و ليس كبعض الثقافات الداعية إلى الاسترخاء و الابتعاد عن المصاعب!
و بما أننا نتحدث عن التحديات، فأكثر الأمثلة مناسبة: المكوك تشالنجر! الذي انفجر أثناء الإقلاع في العالم ١٩٨٦م. و تم تصعيد القضية إلى أكبر جهة حكومية في أمريكا -الكونجريس-، و استدعي أحد أشهر علماء الفيزياء آنذاك -ريتشارد فاينمان- ليدلي بشهادية في القضية. و ما كان منه إلا أن طلب قطعة بلاستيك، و كأس به ماء مثلج. و غمس البلاستيك في الماء حتى تجمد. ثم رفع البلاستيك و ضغط عليه من طرفين فانكسر! هذه التجربة الصغيرة، بينت قوة ارتباط العلوم الأساسية و التجارب الصغيرة، بالمركبة المعقدة، إذ بينت كيف أن البلاستيك إذا تجمد فإنه يصبح مادة خطرة لا يمكن أن يعتمد على ليونتها. مما أدى إلى مراجعة كثير من التصاميم و المزيد من السلامة لاحقا!
لم تمنع تلك الكارثة العلماء من الثقة في المركبات الأخرى، فبعض المشاريع يتحتم على العلماء تركها و إنهاءها في سبيل السلامة حتى و إن كلفت المليارات. و لكن، هذه المركبات مصممة لتكون أكثر المركبات أمانا، رغم أنها تمر بأخطر الظروف و أصعبها. و قد أثمرت هذه الثقة و المزيد من التطوير، حيث إن أسطول الـ”مكوكات” الخمس ساهم في تغيير حياة الإنسان على الأرض، سواء أكان من ناحية تعزيز الوسائل التقنية التي تخدم الإنسان كالأقمار الصناعية التي تراقب مناخ الأرض و تراقب حركة الأجرام السماوية حول الأرض، و تلك الأقمار المستخدمة في الاتصالات و القنوات و شبكة الانترنت. [قائمة بالأقمار الصناعية التي تم إرسالها، إصلاحها، أو تعديل مساراتها عن طريق مكوك الفضاء]
و لكن، من أهم المنجزات أنها أرست للإنسان ميناء في الفضاء ليكون شاهدا على مدى تطور العلوم و التقنية البشرية. فالمحطة الدولية الفضائية2 تدور حول الأرض اليوم و يمكن أن يشاهدها أي شخص من خلال المناظير المخصصة للهواة، و يعمل في المحطة رواد الفضاء و الباحثين في رحلات متتالية، حيث تقام فيها التجارب العلمية التي سوف تساعد الإنسان أكثر في الأرض نفسها. بالإضافة إلى كون المحطة ذاتها تحديا علميا و هندسيا و اقتصاديا؛ استطاعت عدة دول تهتم بالعلوم و التقنية أن تحوله إلى هذا المنجز العظيم. بناء المحطة الدولية الفضائية استغرق ١٢ عاما، و بفضل الله الذي رزق الإنسان العلم الكافي لصناعة مكوك الفضاء. [جولة داخل المحطة]
و من أهم المنجزات، إرساء و إصلاح التلسكوب الفضائي هَبِل Hubble، و الذي ربما لا تعرفه بعض الشعوب، و لكنهم قد يعرفون بعض الصور العظيمة التي التقطها لأعماق الكون. مما ساهم في مساعدة العلماء الفلكيين و الفيزيائيين الفكليين و علماء الكون و باحثيتهم و طلاب الدراسات العليا في تشكيل تصور أكثر دقة و أعمق فهما للكون من حولنا، و تاريخ تطوره و نشوئه! و لكن ما زالت هناك أسئلة كثيرة، تنتظر المزيد من التحديات و الابتكارات و الأبحاث و الباحثين المهتمين و الدول التي تدعم الاستكشاف! و هناك منجزات أخرى كثيرة لمكوك الفضاء و رواده.
نهاية
بعد ٣٠ عاما من العمل، تمت إحالة المركبات المتبقية إلى التقاعد! بعد أن صمدت و سبرت أعماق الفضاء حول الأرض، أدت مئات المهام الناجحة، و نقلت مئات من رواد الفضاء، و أرست مئات الأقمار، و بنت المحطة الدولية الفضائية كما ذكرنا. و من خلال ذلك كله زادت حياة البشر رخاء، و زادت معرفة البشر عن الكون و الأرض على حد سواء -من خلال العلماء و البحث العلمي-. و بعد كل ذلك، آن للمحارب أن يستريح، و للبشرية -و تحديدا الذين ساهموا في كل ذلك- أن يفخروا بهذا المنجز العظيم.
و لكن القصة لم تنتهي بعد. فانتهاء عصر مكوك الفضاء سوف يقود ناسا و غيرها إلى ابتكار مركبة نقل جديدة، تستند في انطلاقها على منجزات المكوك. و العالم العربي يقبع في خلف قطار العلوم و التقنية!
صورة ذات أهمية خاصة [أول صورة لمكوك فضاء -اندوفير- و هو يرسو في المحطة الدولية، و الصورة التقطها الفريق الروسي قبل عودتهم إلى الأرض-اضغط للتكبير]
للمزيد:
صفحة ناسا المخصصة لبرنامج مكوك الفضاء و كل ما يتعلق به -بها عرض تفاعلي-!
جزاك الله خير على المعلومات القيمة الغير متوفرة باللغة العربية وبطريقة علمية سلسة ونتمنى مقالات أكثر بإسلوبك الرائع
مبدع ياسعود ولكن الله يهديك غسلت الشعوب العربية غسل… والله مقال حلو …. بس اتوقع السعودية بتشتري المركبات الفضائية المحالة للتقاعد ,,,, ههههههههههههه
معليش توني الاحظ اسمك … معين ….. اصلا انا داخل المقالة ذي على انك سعود بس كفو ووالله
لا حرج يا عزيزي، و شكرا لك. أما ما يخص “غسل الشعوب العربية”، فالواقع أنني أردت قول كلمة حق -بشكل عام- عن الشعوب العربية و الحكومات العربية و الثقافة العربية الكسولة -إلا ما رحم ربي- التي توارثتها الأجيال بعد سقوط حضارة الإسلام! و أكبر دليل عليها؛ هو أننا لا نصنع بأنفسنا ما يهيئنا إلى منافسة الدول المتقدمة في أي مجال و نأخذ هذه الأمور بنظرة تشوبها الغرابة و الريبة و انعدام الصلة -سوى الشراء و الاستهلاك- و انتظار ما تفيض به عقول الشعوب التي تفكر و تنجز. و ربما أن المكوك هو أكبر فجوة بيننا و بينهم.
تحياتي لك
شكراً جزيلاً .
سلمت يمينك . ويسارك وكلك على بعض.
لك الشكر فقد بحثت كثيرا عن موقع يشرح بصدق وسهولة للابناء وقد وجدته بعد معاناة. فجزى الله خيرا من دلني وجزاك خيرا.
لك عزيمة عندي بهذه المناسبة.( اسوي ريجيم وقاعد أتسبب للحصول على كبسة الله يخليك وافق).
مقال ثري جدا .. ما شاء الله
استمر على هذا النحو من المقالات .. صدقني أنا أقرؤها أكثر من مره واتفحصها كي لا أفوّت عن معلومة