كان العلماء يعتقدون أن المادة تتكون من ذرات لا يمكن أن تتجزأ، ثم وجدوا أن الذرات تتكون من الكترونات (1897م) و نواة (1911م)، ثم اكتشفوا أن النواة تحتوي على نيوترونات (1932م) بالإضافة إلى البروتونات (1917م)، ثم اكتشفوا وجود مئات الجسيمات النووية -تسمى: باريونات و ميزونات وغيرها – بناء على رصد الإشعاع الكوني و على تجارب المسارعات النووية… ثم اقترحوا في النهاية أن الكون يتكون من كواركات (اكتشف آخرها عام 1995م) ومنها تتكون مكونات النواة، و لبتونات (اكتشف آخرها عام 2000م) و أحدها الالكترون. و يتفاعل بعضها ببعض عن طريق جسيمات تسمى: بوزونات (اكتشف آخرها عام 2012م) و أحدها الضوء، و المعادلات التي تحكم كل ذلك تكون النظرية العلمية التي تعرف بالنموذج المعتمد لفيزياء الجسيمات -يترجم أحيانا بالنموذج المعياري أو القياسي- و هي نظرية صلبة تدعمها التجارب منذ ما يزيد عن 40 عاما!1
دون أن نسترسل في حديث تاريخي مطول، وجد العلماء أنهم كلما أرادوا أن يغوصوا في المادة أكثر (ليكتشفوا العالم الأوليّ الصغير -أي لبنات المادة)؛ كلما احتاجوا إلى بناء أجهزة أكبر (مسارعات\معجلات و كواشف) و ذات طاقة أعلى… ثم وجدوا أن المسارع كلما ازداد كبرا و بالتالي طاقةً، كلما اقترب الوضع الحاصل في داخله من الوضع الذي يفترض العلماء أنه قريب من بداية الكون (حسب نظرية الانفجار العظيم، أو على الأقل ما قبل مليارات السنين).
بكل اختصار، فيزياء الطاقة العالية (أو فيزياء الجسيمات) هو العلم الذي يدرس اللبنات الأولية التي تتكون منها المادة و يدرس التفاعلات (التداخلات/القوى) بينها، و النظرية الراسخة التي تتوافق مع التجربة هي تسمى النموذج المعتمد لفيزياء الجسيمات كما ذكرت.
إن نظرة العلماء الحالية عن الكون و ما يحويه تتلخص فيما يلي:
الكون عبارة عن جسيمات أولية يتفاعل بعضها ببعض عن طريق قوى محددة، و تنتقل هذه القوى بين تلك الجسيمات بواسطة جسيمات ناقلة.
القوى/التداخلات الأربع الأساس:
يعتقد العلماء أن القوى التي تحكم جميع التفاعلات في الكون هي أربع:
1. التداخل النووي الشديد (و هو المسؤول عن ربط مكونات النواة ببعضا)
2. التداخل الكهرومغناطيسي (الكهرباء و المغناطيسية)
3. التداخل النووي الضعيف (و هو المسؤول عن تحلل النواة و بالتالي وجود العناصر المشعة)
4. الجاذبية (و هي المسؤولة عن سقوط الأجسام إلى الأرض!)
و يعتقد العلماء أن هذه القوى تعود إلى أصل مشترك (قوة واحدة)؛ لذلك فهم في سعي دؤوب لتوحيدها، و قد استطاعوا أن يوحدوا بين القوة النووية الضعيفة و القوة الكهرومغناطيسية فيما يسمى القوة الكهروضعيفة، و وضعوا النموذج المعتمد و هو الذي يصف القوة النووية الشديدة و القوة الكهروضعيفة، و كل ما يتعلق بهما من ظواهر، و لكنه (أي النموذج المعتمد) يهمل الجاذبية لأنها ضعيفة جدا مقارنة بالقوى الأخرى.
المادة:
يعتقد العلماء أن المادة في الكون تتكون من جسيمات تسمى فرميونات و هي نوعان:
1. كواركات: و هي ست أنواع و كل نوع له ثلاثة شحنات لونية (ليست كهربائية و إنما شحنة خاصة بالجسيمات التي تتفاعل مع بعضها عن طريق القوى النووية و ليست كل الجسيمات تفعل ذلك)، و لها جسيمات مضادة (أي نفس الخصائص و لكن عكس الشحنة الكهربية و اللونية).
2. لبتونات: و هي أيضا ست أنواع (بعضها تحمل شحنة كهربية فقط و الأخرى لا تحمل أي شحنة)، و لها جسيمات مضادة.
و أخيرا فإن البوزوناتهي التي تنقل القوى (التداخلات) بين الجسيمات. فمثلا، تقوم الفوتونات (الضوء) بنقل القوة الكهرومغناطيسية بين الأجسام المشحونة كهربيا! و الـ “جلونات” تقوم بنقل القوة النووية الشديدة بين الكواركات، و تقوم بوزونات w و z بنقل القوة الضعيفة بين الكواركات و اللبتونات!
إن تلك النظرة ليست كاملة، لأن النموذج المعتمد لا يفسر كل الظواهر الفيزيائية المتعلقة بالجسيمات الأولية، و لا يشمل الجاذبية. كذلك فإن النموذج المعتمد يفترض نوعا من البوزونات تسمى (بوزونات هيجز)، و هذه البوزونات لم يثبت وجودها بعد –على الرغم من أن الدلائل تكاد تؤكد وجودها-. (تحديث 2013: في شهر جولاي 2012 تم اكتشاف جسيم له خصائص جسيم هيجز و لكنه ما زال تحت الدراسة. تحديث عام 2015: ازدادت ثقة المجتمع العلمي بأن الجسيم المكتشف هو جسيم هيجز)
لقد أدت الحاجة إلى التحقق من وجود بوزونات هيجز، و غيرها من الأسئلة التي لا نملك إجابة عنها في مجال الجسيمات الأولية و علم الكون، إلى إنشاء أضخم مسارع في العالم بتكلفة تزيد عن 10 مليارات يورو بواسطة المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية CERN، و يقع هذا المسارع الذي يبلغ محيطه 27 كم، و على عمق 100 متر تحت الأرض، و يحتوي على خمس كواشف منها أضخم كاشف في العالم ATLAS، و يقع هذا المسارع بين دولتي سويسرا و فرنسا. و هو ما يسمى المصادم الهادروني الضخم (تجربة الانفجار العظيم) The LHC.
إن المجتمع العلمي في جميع أنحاء العالم -و تحديدا فيزيائيو الطاقة العالية- ينتظر بدء عمل هذه التجربة الجديدة، في سبتمبر القادم ٢٠٠٨م و ذلك ترقبا للنتائج المهمة التي ستخرج عنها بإذن الله.
نعود إلى النموذج المعتمد لنذكر بعض محاسنه و بعض مساوئه التي تفرض على العلماء البحث عن ما بعد النموذج المعتمد.
محاسن النموذج المعتمد:
1. يعطي وصفا جيدا للقوة النووية الشديدة و القوة الكهروضعيفة و يضعهما في إطار عام واحد.
2. يفسر العدد الهائل من الجسيمات الأولية التي تنتج عن التصادمات في المسارعات، و كذلك الأشعة الكونية.
3. يربط ربطا وثيقا بين علم الجسيمات الأولية و علم الكون من خلال دراسات الجسيمات الفلكية و فرضية تضخم الكون.
مساوئ:
1. لا يحدد كتل الجسيمات الأولية
2. يفترض جسيمات ناقلة (بوزونات هيجز) لم يتم رصدها (تحديث عام 2015: تم رصد جسيم هيجز عام 2012م.)
3. يتجاهل القوة الرابعة (الجاذبية).
4. يفترض أن النيوترينات (تنبه أننا لا نعني النيوترونات) ليست ذات كتلة، بعكس ما تظهره التجارب الحديثة و تؤكده.
و غيرها
5. لا يفسر المادة المظلمة
هذه باختصار نبذة سريعة جدا عن فيزياء الطاقة العالية، و إليكم بعض المواقع المقترحة للاستزادة:
– Powers of ten (لعبة تفاعلية بسيطة من موقع سيرن لتوضيح مقياس محتويات الكون بالمتر و مضاعفاته -تجد اللعبة في منتصف/يسار الصفحة)
– ُThe scale of the Universe by Fotoshop (لعبة أخرى لمقياس الكون. و لكن ما بعد ١٠^-١٨ هي افتراضات لا يمكن اختبارها تجريبيا لأنها بعيدة جدا عن مستوى طاقات التجارب الحالية)
– The particle adventure (موقع تفاعلي تم تحديثه مؤخرا، و هو يقدم معلومات خفيفة و مجزأة و أشكال توضيحية عن: الأنموذج القياسي… و عن أهداف المصادم الهادروني الضخم، و عن المسارعات و الكواشف)
جزاك الله خيرا الله يعطيك العفية علي هادا الموضوع الجد مهم و مفيد شكرا
العفو. و شكرا لاهتمامك.
بسم الله الرحمن الرحيم
اولا جزاك الله كل الخير عنا وعن كل حرف دونته لتوضيح فكرة المسارع او التصادم العظيم وربي يجعله في ميزان حسناتك
ثانيا هل تصدر طاقة من عملية التصادم وهزات ارضية تؤثر على عمل المسرع
وهل في القرآن الكريم مايفسر هذا التصادم من كيفية نشأة الكون ؟
سدد الله خطاكم وزادكم من العلم النافع لما فيه خير المسلمين
اختكم بيرلا
حياكِ الله أختي بيرلا. و آمين و جزيتِ خيرا..
بالنسبة لـ”هل تصدر طاقة من عملية التصادم” فالإجابة هي نعم. تصدر طاقة و هي طاقة هائلة على مستوى الجسيمات الأولية (ما دون نواة الذرة)! و لكنها طاقة صغيرة جدا على مستوى الأجسام الكبيرة، أي مستوى حياتنا العامة. فالطاقة الناتجة عن التصادم بين البروتونات في المصادم الهادروني الضخم -كما يشير موقع سيرن- تماثل -تقريبا- الطاقة التي تنتج عن رفرفة أجنحة الذبابة!! و لكن البروتونات أصغر من الذبابة أكثر من ألف مليار مرة، و بالتالي فهي طاقة هائلة في ذلك المستوى.
بالنسبة لتأثر المسارع بالهزات الأرضية: فنعم. يتأثر كثيرا. بل إن مسارعا مثل ذلك الذي في سيرن، يتأثر باهتزازات الأرض الناتجة عن اقتراب/ابتعاد القمر من الأرض (ظاهرة المد و الجزر، و التي تؤثر على مياه البحر بشكل نلحظه، و تؤثر أيضا على طبقة الأرض و لكن بشكل لا نشعر به لضآلته، و لكن جهاز مثل المصادر الهادروني الضخم يشعر به و يتأثر به)، و بالتالي فإن طريقة تثبيت المسارع هي عملية معقدة و تعتمد على تقنيات عالية لتلافي أي اهتزارات قد تؤثر على مسار الجسيمات التي يتم تسريعها.
بالنسبة لربط هذه التجربة بنشأة الكون و القرآن، فهذا أمر صعب، لأن التجربة في الواقع لا تبحث عن نشأة الكون بالمعنى الحرفي للكلمة. و لكنها تدرس الجسيمات الأولية التي تكون هذا الكون، و نظرا لأنها تدرس هذه الجسيمات في ظروف طاقة عالية جدا، و لأن هذه الطاقة قريبة من طاقة الكون قبل مليارات السنين، فقد تعطينا تصورا عن حالة الكون في ذلك الزمن (قبل ما يتقرب من ١٣.٧ مليار سنة)، و ليس شرطا أن هذا الرقم هو بداية الكون، و إن كانت لحظة الانفجار العظيم بناء على علم الكون كانت في ذلك الوقت. و لكن ربط هذه النتائج بالقرآن هو أمر غير مطلوب لأن هذه النظريات قابلة للنقض في يوم ما. و ما يقال في مجال الإعجاز العلمي كثير منه ليس حقيقة علمية و إنما وجهات نظر و تفاسير قابلة للأخذ و الرد. (انظري مقالي: لا تصدق كل ما يقال إنه إعجاز علمي. إذا كنتِ مهتمة بهذا الموضوع)
شكرا لأسئلتك، و لدعائك و لكِ مثله.
السلام عليكم.
انا ماجد بكار.احببت ان أطمئن إلى أخبارك,وتحياتي لك.وأتمنى لك مزيدا من النجاح
و عليكم السلام أستاذي الغالي ماجد.. حقيقة سعدت جدا برؤيتي لاسمك في مدونتي المتواضعة.. فأنت من علمني الحرف، شكرا جزيلا لك، غمرتني بكرمك يا أستاذي.
شكرا على هذا الموضوع الرائعع
! thank you Mrs for your post is very intressting and important